الحق والعدل مقابل مظنَّة الحياة والمصلحة … يقلم/ اللواء (م) مازن محمد إسماعيل

● في عام ١٩٥٢م كان Solomon Asch وهو أحد كبار عُلماء النفس .. قد اعتاد التوجُّه لعمله كأستاذٍ في الجامعة على متن دراجته ، وكان دوماً يقطع المسافة من بيته إلى الجامعة في عشر دقائق ، وذات مرَّةٍ تصادف أن رافقته على امتداد الطريق مجموعة درَّاجين لا يعرفهم ولم يحاول أن يتسابق معهم ، ولكنه اكتشف أنه وصل في ثمان دقائق فقط ، فكانت هذه نقطة انطلاق بحثه وتجاربه التي عُرِفت فيما بعد باسم Asch Paradigm والتي خرج منها بما يُعرف بالانصياع المجتمعي أو الامتثال المجتمعي Conformity ، والتي تسلُب الفرد لا شعورياً إرادته الذاتية امتثالاً لرؤية المجتمع وطريقته ، والمجتمع يسهل التلاعب بأفكاره بوسائل لا حصر لها ، وبالتالي يصبح الإنسان داخل المجتمع .. مجرد فردٍ في قطيعٍ تتحكَّم في إرادته الشخصية عوامل يسيطر عليها فردٌ أو قلةٌ من الأفراد ، والقرآن الكريم ذمَّ العقل الجماعي في إشارته من خلال ٣١ آية صريحة بأن أكثر الناس لا يعلمون ولا يعقلون ولايفقهون .. الخ ، وكلُّ علماء النفس والاجتماع باختلافهم أجناسهم وأديانهم وثقافاتهم وأزمانهم وجغرافيتهم أكَّدوا على هذا الأمر ، ومسيرة الإنسانية تؤكد بما لا يمكن دحضه بأن خيرٍ أصاب البشرية من هداية واكتشافات واختراعات وانتصارات واستقرار ونهضة وريادة .. بدأت بفكرةٍ تعمَّقت في رأس فردٍ توفَّر فيه العزم وتهيَّأت له الظروف بالتفاف نخبةٍ منتقاة آمنت برؤيته وتجرَّدت لتجسيدها ، ويخبرنا القرآن والمسيرة الإنسانية بأن الأمم المُستنعَجة والمسلوبة الإرادة ليس لها من مصير إلا البوار ، ولا تُخلِّف بعدها قِيَماً أو حضارةً سوى ما ينفع لِلعِظة والاعتبار.
● اصطفى الله كل إنسانٍ حيٍّ من بين عشرات الملايين من النُّطَف الأخرى ليفوز بفرصة الحياة فخلقه ذاتاً مُستقلة ، وأكرم الله الإنسان بخصائص ميَّزته عن سائر الكائنات فاستحقَّ بموجبها حمل الأمانة في خلافة الأرض (كل الأرض) ولذلك جعل المؤمنين شهداء على الناس (كل الناس) ، والأمانة في جوهرها الفرض هي الإرادة الذاتية الحُرَّة ، وقدَّم الوهَّاب للإنسان دلائل إرشادٍ متعددةٍ يستهدي بها سواء السبيل ، وغمره كرماً بكل ما يُمَكِّنه من أداء الأمانة التي استودعه إيَّاها ، فنفخ فيه من روحه ، وسوَّى له نفساً غرس فيها الفطرة التي هي الفضيلة ، ونصَّب الضمير قيُّوماً ذاتياً على خواطر النفس وأفعالها ، ووهبه العقلُ الذي يميز بين الصواب والخطأ ، وبثَّ فيه المشاعر التي تتفاعل مع كل فكرةٍ وتصرُّف ، وشمله بفضل الإدراك لكل ما حوله ، وزاده بالوعي الذي حار في كينونته العلماء والحكماء ، وزاده فوق ذلك بتفرُّد الاستطابة ، والانفراد بالبيان ، وقابلية التعلُّم ، والقدرة على التعليم ، وموهبة القراءة والكتابة ، وغير ذلك كثير .. وسُخِّر الله للإنسان مافي الأرض جميعاً ، وأمكنه النَّفاذ بسلطان العلم والعقل إلى الإفادة من الكون ، وضمِن له بصِدْق النية في التَّعلُّم والتدبُّر صواب الحدس في استشراف ما وراء المحسوسات ، وجعل له الكون قرآناً منشوراً بآياته الدَّالة على عظمة الخالق ووحدانيته وكرمه وقُدرته ، وحفظَ له قرآناً مسطوراً بآياته المُتَّسِقة مع آيات الكون المنشور والمُتجددة ذاتياُ على امتداد الزمن ليستهدي للَّتي هي أقوم ، والإنسان في ذلك كُلِّه مكفولُ الرزق ، وتحفظه المُعقِّبات من بين يديه ومن خلفه .. ورغم ذلك فالتاريخ والواقع يؤكدان يقيناً بأن أكثر الناس يختارون أن ينسلخوا عن كل هذه الآيات والنعم والمزايا فيتَّبِعون خُطُوات الشيطان التي تلْهث بهم لهاث الكلب خلف اتباع التقاليد وما كان عليه آباؤهم والرأي العام العالمي والمجتمعي وما يسير عليه القطيع .. فتُغويهم عن غاية الخلق والاستخلاف والمعاد ، ويشتروا بذلك كله ثمناً قليلاً ينقلهم من درجات الإنسانية إلى دَرَكٍ دون الدواب.
● إن سلطان المجتمع هو من يتولَّى تحديد اسم الإنسان ، وديانته ، وطائفته ، ومذهبه ، وجنسيته ، وعِرقه ، وقبيلته ، ولُغته ، وانحيازاته ، وأعدائه ، وما يجب أن يستملِحه ، وما يجب أن يستقبِحه ، وما يقبله أو ما يرفضه ، وما يخضع له أو ما يناهضه ويجاهده ، وتمضي أهواء خطوات الشيطان بالإنسان تُحدد بالإنابة عنه كل تصرفٍ في كل موقف ، فتتضاءل أمام الإنسان قيمة الحق والعدل ومراد الخالق من الخلق والاستخلاف ، وتتقزَّم في ذاته إرادته الذاتية الحُرَّة التي كُرِّم بها ، وقد يُفني المرء عُمْره يتولَّى أهواء غيره ، ويُناضل في نطاق مُحدداتٍ لم تكن أبداً خياراته ، ويخوض معاركاً ليست هي حربه ، فيغدو وليس من أهدافه إحقاقٌ للحق أو إقامةٌ للعدل ، وهو في ذلك موقِنٌ بأن تنازله عن إرادته الذاتية سينقل مسئوليته الشخصية إلى كاهل الزعيم أو الرهط أو المجتمع من سادةٍ وكُبراء وغير ذلك من مُسمَّياتٍ قد تختلف في سبك ألفاظها ولكنها ذات الطاغوت الذي حذَّره الله منه.
● إن المُتأمِّل لتدفق التاريخ الإنساني على امتداده ، والمُدقِّق في المؤثِّرات المُصادِرة لإرادة الفرد من عادات وتقاليد وقوانين وآليات ووسائل وفسُوقٌ في الأسماء اجتراحاً للمصطلحات أو تلاعباً بها .. سيجد أن أكبر مغامرةٍ محفوفةٍ بكل مخاطرةٍ يمكن للمرء أن يخوضها في مسيرة حياته -طالت أو قصُرت- هي أن يحرص على نعمة الله وفطرته التي فطره عليها بأن يبقى لله ذاتاً مُستقِلَّةً ، فلا تستخِفَّه شهوة ، ولا يُسْكِره جشع ، ولا يتَمكَّنُه حِقد ، ولا تستَمِيله فئة ، ولا تستَتْبِعه طائفة ، ولا يستحمِرُه حزب ، ولا تستعبِده دوله ، ولا يستَنعِِجه إعلام ، ولا يستذِلَّه سلطان .. فليس ثَمَّة من يستحق الخضوع له إلا الله .. قد امتلأت نفسه بالله وحده ، فوضع كلما دون الله موضِعه الصحيح ، وصفا لنفسهِ سَلَمَاً ، فأسلم وجهه لله وحده الذي خلق ورزق وأكرم وأنعم وحفظ وهدى ..
● إن النبي الذي سيأتي يوم القيامة وليس معه أحد سيأخذ أجره كاملاً ، كما أن النمرود أو قارون الذي أوتي الكنوز سيحملان يوم القيامة أوزارهما وأوزار الذين أضلوهما كاملةً دون أن ينقص ذلك من أوزار الضالين شيئاً ، وسيمضي هذا الزمن كما مضت الأزمان من قبله ، بكل ما فيه وبكل من فيه ، وستبقى المواقف شاهدةً على أصحابها حين تأتي كلُّ نفسٍ تجادل عن نفسها ، وليس معها حزبٌ ولا قبيلةٌ ولا رهطٌ ولا زعيمٌ ولا كاهنٌ ولا شاعرٌ .. في يومٍ ليس فيه درهمٌ ولا دولار ، والعالم الذي يزداد اضطرابه كل ساعةٍ وتتمايز فيه الصفوف كل لحظة .. لَيُخبرنا كم سيطول اليوم الانتظار والحسرة بمن يخونون أمانة الله التي استُودعوها ثم يرجون توفيقه ونصرته في الدنيا والآخرة ، وأن تتغير أحوالهم قبل أن يُغيِّروا ما بأنفسهم ، وأن يَصلُح شأنهم بذات الأفكار والولاءات والسياسات والأساليب والزعماء الذين سهروا على إفساده ، وأن يقود مسيرة استقرارهم الذين لم يدَّخروا وُسعاً في تقويضه ، وأن يتوهَّموا بأن ما يجري في العالم والمنطقة لا علاقة له بما يجري عندهم .. وهذه أيامٌ يبلوا الله فيها عباده فيُعلم فيها المجاهدين والصابرين والمُساوِمين والمنافقين .. وقد تجلَّى الصراع واضحاً بين الله والطاغوت ، بين الذين استُضعِفوا والذين استكبروا ، بين الآخذين الكتاب بقوة والذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض ، بين القيم واللا قيم ، ولا مجال فيه اليوم لأنصاف الحلول وأنصاف المواقف ، والأحمق من باع آخرته بدنياه ، ولكن الأضلُّ منه ذاك الذي باع آخرته بدنيا غيره ، ويا أهل المدينة .. لا مدينة لكم اليوم ، إنما هو الله والجنة.
ألاَ مَنْ يَشْتَري سَهَراً بِنَوْمٍ
سَعِيدٌ مَنْ يبيتُ قَرِيرَ عَيْنِ
فإمَّا حِمْيَر غَدَرَتْ وخانت
فَمَعْذِرَةُ الإله لِذِي رُعَيْنَ
٣ أبريل ٢٠٢٥م