الديمقراطية و أزمة الحرب في السودان .. بقلم/ د.غادة الهادي يوسف أحمد .. تخصص دراسات الكوارث والتنمية الريفية المستدامة

عندما يُذكر مصطلح “الديمقراطية” في سياق الحرب السودانية، تبرز تساؤلات عديدة: لماذا تحوّلت هذه الكلمة من رمز للعدالة إلى مصطلح مشحون يُستخدم أحيانًا لتبرير الانتهاكات؟ هل المشكلة في فهم الناس لمفهومها، أم أن هناك تعمُّدًا في تشويهها؟
للإجابة على هذه التساؤلات، يجب العودة إلى أصل المصطلح، ثم البحث في إمكانية تطبيق الديمقراطية عمليًا في السودان.
-ما هي الديمقراطية؟
يرجع أصل كلمة “الديمقراطية” إلى الإغريق، حيث تتكوّن من:
Demos و تعني الشعب و Kratia و تعني الحكم.
بالتالي، تعني الديمقراطية “حكم الشعب”، و هو أحد أقدم أشكال الحكم التي عرفها البشر. نشأت الديمقراطية المباشرة في أثينا خلال القرن الخامس قبل الميلاد، حيث كان المواطنون الأحرار يجتمعون لاتخاذ القرارات السياسية و الإدارية. لكن هذه الديمقراطية كانت محدودة، إذ استُبعد منها العبيد و النساء و أغلبية السكان، كما لم تكن هناك ضمانات لحقوق الأفراد كما هو الحال اليوم.
مع مرور الزمن، تطور مفهوم الديمقراطية ليشمل الأنظمة التمثيلية؛ حيث يتم انتخاب ممثلين يتخذون القرارات نيابة عن الشعب، مع وجود مؤسسات تحمي الحقوق و الحريات.
كيف تصبح الديمقراطية واقعًا في السودان؟
السؤال الأهم ليس فقط كيف نفهم الديمقراطية، بل كيف نمارسها؟ الديمقراطية ليست مجرد
عملية تصويت، بل ثقافة تبدأ من أبسط مكونات المجتمع.
التعليم والتوعية:
لا يمكن بناء ديمقراطية حقيقية دون تعليم يعزز ثقافة الحوار و المشاركة. يجب أن تتضمن المناهج الدراسية مفاهيم العدالة، المواطنة، و حقوق الإنسان إلى جانب تعزيز الأنشطة التشاركية في المدارس.
الأسرة كنواة للمجتمع:
تبدأ الديمقراطية من المنزل، حيث يتعلم الأطفال كيف يُبدون رأيهم ويستمعون للآخرين. عندما تُدار الأسرة بطريقة تشاورية، ينعكس ذلك على سلوك الأفراد في المجتمع.
نشر ثقافة الحوار و قبول الآخر:
الديمقراطية ليست مجرد عملية تصويت، بل هي القدرة على إدارة الاختلافات بطرق سلمية. يجب تعزيز ثقافة النقاش المفتوح و تقبل وجهات النظر المختلفة في المدارس، الجامعات و أماكن العمل.
بناء مؤسسات قوية و مستقلة:
الديمقراطية تحتاج إلى مؤسسات تحمي الحقوق وتضمن العدالة، بحيث لا يكون أحد فوق القانون . يجب أن تكون هناك محاسبة فعلية لمن يتجاوز سلطاته أو يستغل نفوذه.
المشاركة السياسية الواعية:
لا تقتصر الديمقراطية على الانتخابات، بل تمتد إلى مراقبة أداء المسؤولين والمشاركة في صناعة القرارات من خلال وسائل سلمية و منظمة.
تمكين الشباب والنساء:
لا يمكن الحديث عن ديمقراطية حقيقية إذا تم تهميش فئات واسعة من المجتمع. تمكين الشباب و النساء يضمن تنوع وجهات النظر ويسهم في بناء مجتمع أكثر عدالة.
دعم المجتمع المدني والإعلام الحر:
يجب أن تكون هناك منصات حرة تتيح للناس التعبير عن آرائهم دون خوف. يلعب المجتمع المدني دورًا محوريًا في توعية المواطنين بحقوقهم والمساهمة في حل المشكلات المجتمعية.
تعزيز المبادرات الشعبية و المجالس المجتمعية:
المجتمع القادر على تنظيم نفسه هو المجتمع الذي يستطيع التأثير في صانعي القرار. إنشاء مجالس مجتمعية متخصصة يساعد على ربط احتياجات السكان بالحكومة بطريقة مؤسسية.
الخلاصة
هناك تعمّد واضح لتشويه مفهوم الديمقراطية، خاصة في أذهان البسطاء، عندما يتم استخدامها كذريعة لانتهاك حقوق بعض الفئات. لذا، يجب أن يكون المجتمع واعيًا لهذه الممارسات، و أن يُدرك أن الديمقراطية الحقيقية ليست مجرد شعار، بل ممارسة يومية تبدأ من الفرد و تمتد إلى المجتمع بأكمله.
تحقيق الديمقراطية في السودان ليس مجرد حلم، بل عملية طويلة تتطلب بناء ثقافة المشاركة احترام القانون، و التمسك بقيم الحوار و العدالة. إذا أردنا ديمقراطية حقيقية، فعلينا أن نبدأ بأنفسنا، في منازلنا، في مدارسنا و في تفاعلنا اليومي مع الآخرين. عندها فقط، يمكن أن تصبح الديمقراطية في السودان واقعًا ملموسًا، و ليس مجرد أداة في الصراعات السياسية.