السودان أرض البركة و القداسة في القرآن .. بقلم/ اللواء (م) مازن محمد إسماعيل

🇸🇩قدِم أُصَيْلٌ الهُذَلي من مكة فسألته عائشة رضي الله عنها : كيف تركت مكة يا أصيل؟ ، فقال: تركتُها حين ابيضَّت أباطِحها، وأحجن ثمامها ، وأعذق إذخرها ، وأمْشر سلمها ، فاغرورقت عيناه عليه الصلاة و السلام و قال : *وَيْها يا أُصَيْل .. دَعِ القلوب تَقَر* .. إن الإنسان مفطورٌ على حُبِّ الوطن، و الوطن معنىً مُجَرَّدٌ قابلٌ للتجسيد ، فالجغرافيا وحدها لا تُمَثِّل وطناً ، فلكم يشعرُ الإنسان أحياناً بالغربة في مسقط رأسه، و الديمغرافيا وحدها لا تعني وطناً، فكثيرٌ ما يغالب الإنسان الوحدة في وسط أهله، و لكن الوطن هو ارتباطٌ وثيقٌ بين الجغرافيا و الديمغرافيا و القِيَم التي هي ذروة سنام الوطن، فبالقيم وحدها استوطن الرُّسُل و الرِّبِّيون مَهاجِرهم، و قد سالت نفوس أهل السودان على مشافر الردى … دفاعاً عن امتزاج الجغرافيا و الديمغرافيا بالقيم، و هذا الامتزاج يحمل الكثيرين من أهلها على العودة إليها داخل نعوشهم إن فجأتهم المنية بعيداً عنها، و القِيَم في السودان تبدء من ارتباط النفوس بالأرض و بركتها و تاريخها و أهلها و ذكريات الطفولة و الشباب و الوشائج بين الناس و الإيمان العتيق و الوثيق و العميق بوحدانية الخالق و الذي ما انفكَّت الأمة السودانية تستمدَّ منه كل قيمها منذ بدء الخليقة و حتى قيام الساعة إن شاءالله، و لئن جاز للوطنية أن تكون وثناً تُبذل في سبيله النفوس في جغرافيا أخرى … فإن السودان لا تعدو الوطنية ذاتها فيه إلا أن تكون سبيلاً لله وحده.
🇸🇩إن الذين استهدفوا هذه البلاد حرباً منذ عصور الآشوريين والإغريق وحتى زمان الصهيوغربيين وأعرابهم .. لم يفعلوا ذلك لانفراد السودان بروعة الجغرافيا وما تحويه من ثرواتٍ طبيعية ، وما خاضت هذه البلاد حروبها قط إلا وكان الإله الواحد هو الغاية الأسمى لِقِيَمها ، فلطالما طابت نفوس أهل هذه البلاد بمشاركة نعمة الله عليهم مع الآخرين ، فهم من علَّموا الإغريق القراءة والكتابة التي نهلوها عن إدريس عليه السلام ، ونقلوا عنه إلى الناس فنون الزراعة والهندسة والطب والفلك وفنون التعدين وصناعة الحديد ، وما استنكفوا أن يُساكنهم أهل الأرض في بلادهم ، ولكن أهل الباطل من الناس نقموا من أهل السودان أن يؤمنوا بالعزيز الحميد إيماناً مزج حياتهم كلها بجغرافيتهم حتى غدى هو صميم صلاتهم ونُسُكهم ومحياهم ومماتهم.
🇸🇩الدراسة المُتأنية للقرآن الكريم و التوراة و الإنجيل و التاريخ (غير المُزَيَّف) و العلم و العقل … جميعها تُؤكِّد بأنَّ هذه البلاد كانت بِذرة الخليقة الإنسانية، و كانت موئل الأنبياء من لدُن آدم و إدريس حتى موسى و عيسى عليهم السلام، و الأراضي المباركة في القرآن كلها عدا (بكة) تقع في السودان الكبير، و الأراضي المقدسة حصرياً في هذه البلاد و شئٌ من الحبشة .. و إن المُدَقِّق في جوهر المعتقدات التقليدية من غير الإسلام و المسيحية في السودان الكبير (شماله و جنوبه) .. سيجد أنها مُعتقداتٌ توحيديةٌ في عُمقها و لكن يجري التعبير عنها بأنماطٍ و أشكالٍ يفسرها البعض بأنها وثنية أو روحانية ، و بإزالة الفسوق في المعنى الحقيقي لاسم (آمون)، و بالنظر ألى رسوخه مُبَجَّلاً و مُصَحَّفاً (آمين) في الأديان السماوية الثلاثة و حتى غيرها .. فسيتضح له بعض ما نشير إليه هنا، و التاريخ و الحاضر يؤكِّدان قطعاً بأنه ليس في السودان كله أصنامٌ يُسجَدُ لها، و من المتفق عليه أن الإلحاد بأشكاله المختلفة من لا أدرية Agnosticism أو جحودٌ لوجود الإله Atheism لم يكن قط من أهل هذه البلاد في شئ ، و قيمة التوحيد للخالق هذه وحدها و ليس غيرها شئ .. هي ما تنفرد به هذه البلاد ، ولم تتغير هذه القيمة بين أهله رغم القصف الثقافي، و بثِّ الفتن بين أهلها لدرجة الاحتراب الطويل، و لم تتأثر هذه القيمة في هذه الأرض رغم الانفصال السياسي بين أهلها، و من الواضح أنها لن تتأثر بمزيدٍ من الانقسام إن حدث لا قدَّر الله، و حيث استحال نسف منظومة القيم في السودان رغم أنه كان سهلاً حتى في بلاد الحرمين ، و فيما أن تغيير الجغرافيا مستحيل أصلاً .. فقد انعقد عزم الصهيونية العربية الغربية على ضرورة اجتثاث الديمغرافيا بما تحمله من قِيَم عن الجغرافيا ، و هذا هو بالضبط ما يجري في السودان ، و لا يشبهه إلا الذي يجري في غزة والضفة الغربية.
🇸🇩من ظنَّ أنَّ هذه الحرب اندلعت لأجل مصالح اقتصادية أو جيوسياسية أو حتى كرسي السلطة .. فقد أبعد النجعة عن حقيقة بواعث هذا الصراع القديم المُتَجَدِّد ، فالواقع والوقائع كُلُّها تُكذِّب ذلك ، فحميدتي وحمدوك حكموا السودان حولين كاملين حُكماً مُطلقاً دون منازع، و الإمارات حصلت على كلما طلبته و أكثر من مصالح سيادية و اقتصادية و جيوسياسية، و إسرائيل مُنِحت التطبيع و فُتِحت لها كل الأبواب و الوثائق و التعاون في طرد من شاءت و مصادرة أموال من شاءت واخترقت منظومة اتصالاتنا وبياناتنا ببرامجها الخبيثة وعلى رأسها بيغاسوس ، ولكنَّ الأمة السودانية التي صَمتت عن استلاب سيادتها ، و غضَّت الطرف عن سرقة ثرواتها من الذهب و مشاريع الهوَّاد و أبو عمامة و غيرها، و صبرت على سقطة الانبطاح لإسرائيل .. قد انتفضت غضبَى لتغيير مناهج التعليم بمواد الخنا و الإلحاد، وا ستشاط غضبها باستبدال جمعية القرآن الكريم بإدارة المثليين .. و هذه مجرد مؤشراتٍ عجلى على ما لا يطيق تفصيله مقال من استماتة أهل هذه البلاد على ميراثهم من القِيَم، و إن السَّعي لإطفاء هذه الحرب يبدء من الوعي العميق بأسبابها و أطرافها و أهدافها و الإدراك الدقيق لممسكات القوة الوطنية الشاملة التي ينبغي توظيفها.
🇸🇩الدارس للتاريخ سيعلم تماماً كم هي قليلةٌ *الشعوب المقاتلة* ، والمهتمون بعلم الأجناس Ethnology يعلمون كم هي قليلةٌ الشعوب الأصيلة، و الأصالة هنا لا تعني نقاءً عِرقياً بقدر ما تعني نقاءً قِيَمياً يمزج ما بين ثقافة هذه الشعوب وحياتها المجتمعية، فكل الذين ساكنوا أهل هذه البلاد ردحاً من الزمن حملوا موروثها القِيَمي في جيناتهم، ومن شاء فلينظر ألى الفرق بين أقباط السودان و أقباط مصر، و لمحةٌ من أوكرانيا التي يدعمها العالم كله أمام اجتياحٍ لها من دولة أجنبية ، و رغم ذلك يقاوم أبناؤها التجنيد القسري بالقوة للدفاع عنها رغم كل المغريات المادية، و قارنها بنخوة السودانيين الذين ما إن دعتهم الإنقاذ للجهاد حتى هرعوا، و هم اليوم قد أجبروا السلطة عملياً و كرهاً على التعبئة العامة التي ما تزال السلطة تكابد إدارة غضبها .. سيتضح الفرق الذي نعنيه ، و هذا هو بعض التميُّز القيمي الذي يراه العالم ، و فشلت كل حكوماتنا الوطنية عن رؤيته .. ناهيك عن توظيفه بما ينفع الناس … و نقول هذا حتى يُصحِّح البعض مفاهيمهم التي يختزلون فيها الصراع إلى أنها حربٌ من أجل استعادة منازل أو استرداد مغانم أو للجلوس على كراسي السُلطة .. فهذه حرب قِيَمٍ وشَرَفٍ وكرامة و مُخطِئٌ من ظنَّها غير ذلك.
شبابٌ ذَلَّلوا سُبلَ المَعالي
و ما عَرفوا سوى الإسلامِ دينا
تَعَهَّدَهمْ فأنبتهمْ نباتاً
كريماً طابَ في الدنيا غَصونا
إذا شهِدوا الوغى كانوا كُماةً
يدكُّونَ المعاقلَ و الحُصونا
و إنْ جنَّ المساءُ فلا تراهم
من الإشفاقِ إلا ساجِدينا
شبابٌ لمْ تُحطِّمهُ الليالي
ولمْ يُسلمْ إلى الخصمِ العرينا
و لم تشهدُهُمُ الأقداحُ يوماً
و قد ملأوا نواديهم مُجونا
فما عَرَفَوا الخلاعَةَ في بناتٍ
ولا عَرَفوا التخنُّثَ في بنينا
و لم يتشدَّقوا بقشورِ علمٍ
ولمْ يتقلَّّبوا في المُلحدينا
و لم يتبجحوا في كلِّ أمرٍ
خطيرٍ كيْ يقالَ مثقفونا
٢٤ يناير ٢٠٢٥م