حاضر قد لا يلامسه الأمس .. طالبة طب تحت الحصار .. بقلم/ براءة محمد حسن فضل الله

أتطلع من بين شرفات المدينة، احملق في وجوه العابرين لأبصر ذلك القهر القاهر (النزوح) الذي يؤسس لمعالم حاضرنا والواقع الذي جبلنا على أن نذعن له، مكرهين فاقدي الحيلة، نلملم أطراف الوقائع آملين على ضمر ما علق منها في النفوس، من ذل وهوان ولقطات تعتري الذاكرة من حين لآخر.. وجنود البغي يستبيحون أوطاننا بل يستبيحون حتى حفنة الأمل التي تبقت لدينا.
منذ بداية النكبة ونشوء هذه الحرب، بدأت حركة نزوح بأعداد كثيفة، فحين أتت تلك الساعة التي عرفوا فيها أن لا أمان في منازلهم- التي كانت هي موطنه- أخذوا يقتبسون عمرهم وحصيلته في حقيبة صغيرة، ودعوا جدران البيت حتى أصغر حجر فيه، بينما هم يحاولون إخفاء الغصة التي تعتري حلوقهم بمرارة، تلك التي قاساها أغلبنا، عندما أجبرتنا مليشيات الدعم السريع على ترك ديارنا مرغمين، سواء كان ببعث الروع فينا أو بصورة مباشرة عندما يدخلون للبيوت طاردين ساكنيها بغير حق وبقوة السلاح!
فحين خروجهم هاربين من بغي الجنجويد، وصعودهم للحافلات وهم يسامرهم طيف أحلامهم التي تركوها ورائهم نحو حاضر قد لا يلمسه الأمس، حاملين معهم الحنين الذي لا يعرفون منتهاه، ومنهم من حدثته نفسه بترك الوطن وترحيل هذا الحنين لما وراء الحدود، فسلكوا درب الهجرة غير الشرعية، فإما الوصول وإما الموت وإما سلطات الحدود، وحينها وقع عليهم قول الشاعر:( لبلادنا حرية الموت اشتياقاً واحتراقاً)
فإما أن تحترق بالرصاص والدانات وإما أن تموت شوقاً ولوعة إليه.
في هذا التقويم الحربي أصبحت الصفة الطاغية (أنا سوداني إذاً أنا نازح)، حتى سادت قصص النزوح مستعمرات (الونسة)، وأصبحوا يتناولون بها أطراف الحديث كوسيلة للترويح، باحثين عن ما يضمد جراحهم أو ما يخيط ذلك الجزء الذي فتق من نفوسهم، فتراهم ساهبين في الأفق مستحضرين ذلك الحشد من الذكريات باحثين في بقاعها كأسطوانة صدئة تعيد وتعيد تكرار نفس المشهد، ففي هذا الوقت جرب فقط أن تذكر كيف نزحت ستجد كل القابعين في المجلس ينتظر دوره بلهفة ليحكي كل ما بدر من مليشيات الدعم السريع وذلك الأثر (الحسن) منهم المطبوع في دواخله والذي لن يمحيه مرور الزمان ولا حتى تعاقب الحقبات التي ستخلو من دنسهم وجورهم.
فمنذ اشتعال هذه الحرب صنف السودان كأكبر أزمة نزوح في العالم وارتفعت بصورة كبيرة أعداد النزوح داخلياً وخارج الوطن، حتى تكدست في المناطق الآمنة أعداد السكان وارتفعت كثافتها السكانية ولهذا تبعاته الأخرى أيضاً فأحدث الآخر شرخ في النظام الصحي وانتشرت الأوبئة مثل (الكوليرا وحمى الضنك) وغيرها وأيضاً أزداد خطر مضاعفاتها، ونحن هنا وسط خوف حقيقي من مسؤولي الصحة والعاملين بالمستشفيات، والأرقام تنذر بكارثة صحية ندعو الله أن يخفف وطأتها على العباد.
(لبلادنا في ليلها الدموي جوهرة تشع على البعيد)
غد أليف قد يعتري الساحه، ودعسات من الأمل تعربد في الأفق تبشرنا بأن الخلاص قد يأتي أوانه، وأن الهوان وشرخ الهوية -وإن طال زمانهم- فإن عليهم الرحيل وقفل الباب ورائهم، فمع تقدم الجيش وتحريرهم لمناطق كثيرة كانت تحت سيطرة المليشيات وروح التفاؤل تضمخ الإجواء تطمئننا وتبشرنا بقرب انتهاء هذه الحرب وبأن الفرحة ستعود تعتري هذا الشعب الصابر المكلوم، فغداً يعود لنا اللقاء، وتعود لنا الأيام وتنبت البهجة من تحت الثرى.