خلافة سلفاكير في جنوب السودان بين تنافس المجموعات و سيناريوهات العنف والانقلابات .. بقلم/ د. الفاتح الحسن المهدي

ترتفع درجات الحرارة السياسية و العسكرية في جنوب السودان و جواره الأفريقي، و لدى الضامنين لاتفاق السلام الأخير في الدولة الوليدة -جمهورية جنوب السودان- لعوامل متعددة؛ فعندما سرت موخراً تسريبات و شائعات بشأن الحالة الصحية للرئيس سلفاكير ميارديت و أنه قد أصيب بشلل جزئي، إذ عمت هذه الشائعات الأوساط المختلفة مع حالة من الخوف و الترقب و القلق لتزداد الهواجس بعد شائعة وفاة سلفاكير حتى تبين للجميع بأن الوفاة كانت شقيقة الرئيس و ليس هو نفسه. هذه هي المرة الثانية التي تنتشر فيها شائعة وفاة الرئيس سلفاكير مما يرفع من درجة الاضطراب و عدم اليقين مما سيحدث في الدولة المضطربة أصلاً و الغارقة في دوامة العنف المتزايد منذ انفصالها عن السودان في العام (2011)، حيث نظام حكم هجين و غير ديمقراطي و غير مستقر فهو (أوليغارشي) و عسكري إلى حد كبير.
تولى سلفاكير منصب رئيس الدولة في السودان الموحد قبل انفصال إقليم جنوب السودان في(9 يوليو )2011، بعد أن خلف رئيس الحركة الشعبية العقيد جون قرنق في منصب نائب الرئيس السوداني عمر البشير – آنذاك- و ليصبح أيضاً رئيساً للحركة الشعبية لتحرير السودان الحزب الحاكم للدولة الوليدة فيما بعد.
سلفاكير هو أبرز جنرالات الجيش الشعبي، و هو مولود في عام (1951)، و ينحدر من منطقة “قوقريال” ببحر الغزال و التي تعتبر المعقل الكبير والمنافس لمجموعات قبائل (دينكا بور) و (دينكا ملوال)، و الذين يتنافسون علي القيادة السياسية و العسكرية وقيادة الدولة الوليدة حيث تشكل قبيلة الدينكا أكبر مجموعاتها السكانية تليها قبيلة النوير.
و تلعب قبيلة الدينكا -التي تنحدر منها الطبقة السياسية و العسكرية الحاكمة- الدور المحوري و المؤثر في جنوب السودان، مما يزيد من تعقيد المشهد الحاضر في الدولة الأحدث في أفريقيا حيث تاريخ من المواجهات الدامية و موجات من التطهير العرقي و المجاعات و الاغتصاب، و هو ما لخصته تقارير خبراء الامم المتحدة العديدة بشأن الحرب التي استمرت بين هذه الأطراف لعدة سنوات مما عمّق هوة الانقسامات و أثر علي البُني الاجتماعية للدولة الجديدة و التي يغلب عليها طابع الهشاشة و الانقسامات الحادة، رغم توقيع اتفاق السلام في العام (2018) و الذي كرّس حالة اللا سلم واللا حرب بين القبيلتين و هو الأمر الذي يصب في مصلحة هؤلاء المتنافسين.
جدل التأجيل المستمر للانتخابات
ظلت المجموعات السياسية الحاكمة في جنوب السودان تؤجل معالجة القضايا العالقة في ظل شراكة من التاريخ الدامي بين الطرفين و اضطراب العلاقات بين المجموعات العرقية و المجموعات المسلحة فإن البحث عن صناديق الاقتراع يظل مثل البحث عن خاتم سليمان. و مثلما توقّع المراقبون أعلن مكتب الرئيس سلفاكير ميارديت عن تأجيل الانتخابات المقرر إجراءها في ديسمبر (2024) إلي ديسمبر (2026)، مبرراً ذلك بالحاجة إلى وقت إضافي لإكمال المهام الأساسية التي نصّ عليها اتفاق السلام و المتعلقة بالدستور و عدم إكمال المهام الضرورية للإنتخابات كإجراء إحصاء سكاني وقيام المفوضيات المختلفة وتوحيد الجيوش لضمان عمليات الاستقرار السياسي، عبر رُعاة جنوب السودان و الضامنين لاتفاق السلام عن خيبة أملهم و قلقهم من خطوة تأجيل الانتخابات و استدامة السلام الذي يمر بأوضاع حرجة و معقدة. لاسيما في ظل الخلاف بين الرئيس و نائبه و صعوبة تنفيذ المصفوفة الأمنية المعقدة و وجود صراعات فصائل مسلحة علي أسس عرقية في أجزاء متفرقة من البلاد.
مجهودات ذهبت مع الريح
بذلت دول الجوار الجنوبي و الرُعاة الدوليين لسلام جنوب السودان مجهودات كبيرة لجمع الشتات الجنوبي في مفاوضات استضافتها نيروبي بحضور عدد كبير من رؤساء دول الجوار، و الاتحاد الأفريقي، والإيغاد، والاتحاد الأوروبي و المبعوث الخاص الأمريكي للقرن الأفريقي (مايك هامر)، و الذي حث قادة دولة جنوب السودان بالوفاء بالتزاماتهم و ذكّرهم بأن هناك كثير من الوعود التي لم تحقق، و هو ما يعكس إمتعاض أمريكي تجاه الطرفين تحالف المعتقلين السياسيين و المعارضة المشهور بـ “سوما” ،و الذي مثّله السيد باقان أموم الأمين العام السابق للحركة الشعبية (الحزب الحاكم) ، و الذي شنّ هجوماً عنيفاً علي حكومة سلفاكير و دعاه إلى تغيير عقلية الحرب، و أن هذه هي الفرصة الأخيرة لانتشال جنوب السودان من أزماته المتعددة. مجهودات الجوار استطاعت إشراك الجنرال (بول ملونق) قائد أركان الجيش الشعبي السابق و “الجبهة المتحدة” بقيادة الجنرال (ياو ياو) ، و غاب عن الحوار الجنرال (توماس سريلو) الذي يمثل “جبهة الإستوائية” و قائد أكبر الفصائل المسلحة، و غابت الحركة الوطنية بقيادة (إيمانويل أجاوين) بتأجيل الانتخابات ذهبت المجهودات مع رياح المتغيرات المتلاحقة في جنوب السودان.
المجموعات المتنافسة لخلافة سلفاكير وخياراتها
إن تأجيل الانتخابات لعامين ،رغم أنها تمت بموافقة طرفي الاتفاق، زادت من حالات الاحباط السياسي الداخلي و الدولي التي تري المشهد يزداد تعطيلاً خاصة بعد حوافز الحراك الشبابي في كينيا؛ فالتأجيل يزيد من حدة الاستقطاب للصراع حول السلطة و رغم تأكيدات سلفاكير من قبل بأن تأجيل الانتخابات يقود إلي الحرب مجدداً، و لكنها تم تأجيلها رغم تصريحاته تلك، و لايزال الملعب السياسي في الجنوب محتشداً بالمجموعات المتنافسة و التي يأتي في مقدمتها (مجلس أعيان الدينكا) أو (جينغ كانسل).
أُعيد تشكيل هذا المجلس المتنفذ في البلاد في العام (2013) من أجل حماية قبيلة الدينكا من الاستهداف الداخلي و الخارجي، متخذاً شعار “الدينكا في خطر” و مركّزاً أهدافه في حماية سلطة الدينكا. يعمل المجلس في ترابط يملأ فراغ السلطة المركزية في ظل تصفية و غياب الحركة الشعبية و التي يقف مجلس تحريرها موقفاً غير مرضٍ عنه داخل هذا الكيان و الذي أبرز قادته السياسي المخضرم (ألدو أجو دينق)، ويحظي هذا المجلس بانتقادات كبيرة لتدخله في شؤون الدولة و الوصاية عليها ولعب أدوار سياسية مؤثرة و بارزة عبر استغلال القبيلة و يتقمص دور البرلمان و وصفه معارضوه بـ “نادي العطالة”. عمل هذا المجلس لتكريس سلطة الرئيس سلفاكير و حمايتها بكافة الوسائل و استخدام القوة التي بسيطر عليها (الدينكا) في الجيش والأجهزة الأمنية في تنفيذ أهدافه غير أن خيارات المجلس محدودة في ظل الانسداد السياسي و عدم وجود خليفة لسلفاكير بعد تصفية حزب الحركة الشعبية من المناوئين له. و استطاع المجلس عبر الضغوط إعفاء وزير الدفاع (أنجلينا تيني) (زوجة رياك مشار نائب رئيس البلاد)، أعقبه إقالة المدير العام لمكتب الامن الداخلي الجنرال (أكول أكور كوك) و الذي خدم لفترات طويلة تجاوزت ثلاثة عشر عاماً و عين (اكيج تونق اليو) بديلاً له و الذي كان يشغل وكيل وزارة الدفاع و شؤون قدامي المحاربين، و شغل منصب حاكم ولاية (واراب)، و تمت ترقيته إلي رتبة الفريق، و كل هذه التغييرات مؤشر للصراع الخفي بين المجموعات المتصارعة و الأجنحة داخل (الدينكا) و التي تعمل جاهدة علي توسيع دائرة تحالفاتهم الداخلية مع الإستوائيين و المجموعات المسلحة رغم خروج الجنرال (ياو ياو) من عباءتهم. كما تواجه مجموعة المجلس تحدي إحكام سيطرتها و تعزيز سلطتها بالتسويات مع المجموعات الأخرى من قبائل (الزاندي) و (المورلي)، فإذا فشلت نخبة الدينكا في إحكام قبضتها، فإن أقصر طريق أمامها سوف يكون هو اللجوء إلى خيار الانقلاب العسكري للمحافظة على سيطرتهم و هندسة الواقع مستقبلاً، و لكن هذا الخيار تكلفته عالية و قد يقود البلاد إلى الانزلاق مجدداً في أتون الصراعات المدمرة.
مجموعة النوير و أمير الحرب و رجل السلام
أما المجموعة الثانية المتنافسة هي قبيلة (النوير)، و التي تشكل القبيلة الثانية من حيث السكان و لها من النبوءات السياسية ما يشبه الأساطير. و يخوض (النوير) المنافسة و علي قيادتها الدكتور (رياك مشار) أبرز القيادات التاريخية للحركة الشعبية، و الذي يتمتع بتعليم غربي رفيع و يتميز بصبر كبير، و كان إعلانه تحدي سلفاكير في الانتخابات السابقة بمثابة عود الثقاب الذي أشعل الحريق في الدولة الوليدة في العام (2013) و قاد الي تداعيات كارثية في البلاد.
و لكن مشار يخوض ماراثون الصراع هذه المرة، و هو مسنود بمجموعات عسكرية و سياسية، إضافة لوجوده في مناطق النفط و هو الشريان الذي يغذي اقتصاد جنوب السودان، و مدعوماً أيضاً من (مابيور قرنق) (نجل زعيم الحركة الشعبية) بجانب زوجته الشرسة و وزيرة الدفاع السابقة (أنجلينا تيني) و التي وصفها حليف سلفاكير القيادي (تعبان دينق) المنحدر من (النوير) بأنها هي من تحرك الصراع الجنوبي الجنوبي. إضافة إلى ذلك، يعتبر مشار كذلك خياراً مفضلاً لدى المجتمع الغربي بشكل عام، فلذلك تظل حظوظه عالية في الفوز بالماراثون الرئاسي القادم ما لم تقطع الطريق عليه الانقلابات أو العنف أو الجوار الطامع في التغول في دولة جنوب السودان.
مجموعات أخري
تبرز في ساحة الجنوب مجموعات مختلفة تمثل مجموعة الأحزاب الأخري المشاركة في الاتفاق (OPP)، و تحالف أحزاب المعارضة، (SSOA) و هي مجموعات تطالب بإجراء حوار وطني عاجل. و هنالك تحالف (سوما) كما أن هذه المجموعات التي لم توقع على اتفاق السلام و الحركة الشعبية، بجانب “مجموعة المعتقلين السابقين” التي لم تعلن بعد موقفها من تأجيل الانتخابات.
علاوة على ذلك، يغيب عن الساحة السياسية ما تُعرف بـ “أبناء قرنق” و هي تشكيلة الحركة الشعبية التاريخية و التي حاولت المجموعات الدولية إعادة بعض رموزها إلى الساحة مثل (باقان أموم) الأمين السابق للحركة الشعبية لتحرير السودان و الجنرال (ملونق). بينما يغيب عن المشهد الدكتور (لوكا بيونق) الخبير في المعاهد الامريكية و المتخصص في شؤون الأمن و الدفاع. و وزير الخارجية الأسبق (دينق ألور) و (نيال دينق) و (كوستيلو قرنق) بجانب انكفاء الخبير الأممي الدكتور (فرانسيس دينق). علاوة على النقد اللاذع لأرملة مؤسس الحركة الشعبية و نائب الرئيس الحالي لمجمل الأوضاع بالبلاد.
و تمثل المجموعات العسكرية و المليشيات تهديداً كبيراً للاستقرار في الجنوب، مثل الجنرال (توماس سريلو) بجانب العشرات من المجموعات المسلحة التي تنتشر في طول البلاد و عرضها و هي تنتظر ما ستُسفر عنه أيام جنوب السودان الحبلي بالمفآجات و الشائعات و الأساطير.
أستاذ بالجامعات السودانية
#المرصد السوداني