
و عند جمعة اليوم يا رعاك الله نقرأ معكم من قوله تعالي {والَّذينَ جاهَدوا فينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا} فنعلم ان المجاهدة مثلما قال سيدي رسول الله صلى الله و سلم { المجاهد من جاهد نفسه في الله}.. و عن أسرار المجاهدة يقول النابلسي المجاهدة في النفس عبادة، و لا تحصل إلا بالعلم . . و قال بن عجيبة لا بد للمريد في أول دخوله الطريق من مجاهدة و مكابدة و صدق و تصديق، و هي مظهر ومجلاة للنهايات، فمن أشرقت بدايته أشرقت نهايته، و من رأيناه جاداً في طلب الحق باذلاً نفسه وفلسه و روحه و عزه و جاهه ابتغاء الوصول إلى التحقق بالعبودية والقيام بوظائف الربوبية ، علمنا إشراق نهايته بالوصول إلى محبوبه، و إذا رأيناه مقصراً علمنا قصوره عما هنالك .. و يقول الإمام البركوي المجاهدة هي فطم النفس و حملها على خلاف هواها في عموم الأوقات، فهي بضاعة العُبَّاد و رأس مال الزهاد .. و يقول الدقاق: من زين ظاهره بالمجاهدة حسن الله سرائره بالمشاهدة .. و يقول زكريا الانصاري إن نجاة النفس أن يخالف العبدُ هواها و يحملها على ما طلب منها ربها.
فنتعلم منكم سادتي أن أول مراحل المجاهدة عدم رضى المرء عن نفسه { إِنَّ النَّفْسَ لَأَمّارَةٌ بِالسّوءِ }.. و ذلك أن النفس الأمارة بالسوء تتلذذ بالمعاصي و المخالفات، و لكنها بعد مجاهدتها و تزكيتها تصبح راضية مرضية لا تسر إلا بالطاعات و الموافقات و الاستئناس بالله تعالى … و متي ما اكتشف المرء عيوب نفسه و صدق في طلب تهذيبها، شغلت عن تتبع عيوب غيره و أقبل على نفسه يفطمها عن شهواتها المنحرفة و عاداتها الناقصة، و يلزمها بتطبيق الطاعات و القربات .. فيتدرج في المجاهدة على حسب سيره، فيتخلى عن المعاصي التي تتعلق بجوارحه السبعة و هي: اللسان والأذنان و العينان و اليدان و الرجلان و البطن و الفرج ..ثم يحلي هذه الجوارح السبعة بالطاعات المناسبة لكل منها .. فهذه الجوارح السبعة منافذ على القلب، أما أن تنصب عليه ظلمات المعاصي فتكدره و تمرض، و أما أن تدخل عليه أنوار الطاعات فتشفيه و تنوره … ثم ينتقل في المجاهدة إلى الصفات الباطنة، فيبدل صفاته الناقصة كالكبر و الرياء و الغضب بصفات كاملة كالتواضع و الإخلاص و الحلم … فيكتسب من روحانيته نفحات قدسية تدفع المريد إلى تكميل نفسه و شخصيته و ترفعه فوق مستوى النقائص و المنكرات.
و لا غرو فمن وصل الي مراحل المجاهدة .. كان الله معه، و من كان معه الله فمعه الفئة التي لا تغلب، و الحارس الذي لا ينام، و الهادي الذي لا يضل ،و قذف الله في قلبه نوراً حتى يوصله الي ثواب الأجل، وغاب عن قلبه البغي والرياء والسمعة و المباهاة و الفخر و الخيلاء و الحسد، و كان سبب نجاته من هذه الآفات برحمة الله رياضته هذه النفس بمنع الشهوات منها ..
فتتيامن الدعوات ان يبلغنا الله معكم أعلي درجات المجاهدة ، و أقرب مقامات المشاهدة .. وتعداد مرات المعاودة .. يا من انتم النور و النوار، و سادة المتقين، و كنوز الأبرار .. و قطب زماننا السرمداني، و وتد حياتنا المحمداني، و سر أيامنا الرباني و نور زماننا الشعشعاني.