شمال الجزيرة في حرب السودان (١٥ أبريل ٢٠٢٣ – ؟؟؟) … من (اللعوتة) إلى نيويورك .. بقلم/ د. عبد اللطيف البوني

(الدخلت فينا ما بتمرق تاني … فأنا الآن غيري)
(١)
إلى روح رفيق الدرب منذ الطفولة إلى الكهولة و زميل الدراسة من كنبة الأولية إلى قاعة المحاضرات و توأم الروح الأبدي الدكتور الصديق محمدأحمد مضوي (الاسم الصحفي: صديق مضوي)، كنت دائمًا أقول: إن (ربنا بريدك) لأنك كنت محبًا لكل الناس بما فيهم المختلفين معك في كل شيء، و ليس أدل على محبة الله لك من أنك رحلت عن الدنيا بسودانها قبل يوم ١٥ أبريل ٢٠٢٣.. بعد هذا التاريخ انفتحت علينا صفحة مختلفة كان لا بد أن يكون أول سطورها إهداء لك و توسلًا بك.. و هذا لأمر قدره الله كما سنرى في آخر المقال.
(٢)
حرب السودان الجارية الآن ليست حربًا تقليدية بين قوتين مسلحتين، إنما في شقها الأكبر عدوان من قوة مسلحة على مواطن أعزل لا يعرف حتى (صرف العكاز) و لكن العلاقة بين الإثنين الحرب و العدوان متداخلة بصورة ديالكتيكية Dialectical) )؛ أي أن كل مكون يؤثر على الآخر بصورة لا يمكن الفصل بينهما.. فمثلًا لو أخذنا مسألة (التغنيم) التي أسهمت في التحشيد للدعم السريع سوف نكتشف أن لها دورًا كبيرً ا في فتّ عضده لاسيما و أنها ارتبطت بالانتماء القبلي، و بالتالي يكون المُعتدى عليهم أشتركوا في الحرب و لو بغير إرادتهم. نعم كل السودان من (خرطومه الي كرشه إلى أرجله) عانى من هذه الحرب و دفع ثمنًا باهظًا في الأنفس و الممتلكات، و لكن مع ذلك كانت هذه المعاناة بدرجات متفاوتة، فالولايات التي تشهد معارك حربية و عدوانًا غير تلك التي لم تشهد غير المسيرات، و المناطق التي توقفت فيها الحياة غير تلك التي استمرت فيها، و القرى المنكوبة غير تلك التي لم تسمع لعلعة الرصاص و الناس الذين فروا و تشردوا و فقدوا كل شيء غير أولئك الذين تضرروا بصورة غير مباشرة .. غني عن القول إن هذا التفاوت لم يكن اختيارًا إنما كان بأمر المعتدي.
منطقة شمال الجزيرة و هي إداريًا محلية (الكاملين) عاشت الحرب بكل أهوالها و فواجعها و مآسيها من يوم الحرب الأول لا بل قبله بيوم أي يوم ١٤ أبريل، حيث كان هناك انقلابًا في اللواء الأول مشاة ب(الباقير)… و قد زاد سعار الحرب في هذه المنطقة بمتوالية هندسية بعد سقوط ود مدني في ١٨ ديسمبر ٢٠٢٣. لقد تجرع إنسان هذه المنطقة هذه الحرب قتلًا، و سحلًا، و نهبًا، و تشردًا و نزوحًا لا بل حتى زرعها و ضرعها تعرض للهلاك.
(٣)
مواطن شمال الجزيرة لم يقابل سكين الحرب بالاتكاء لها كما يتراءى للناس، إنما دافع و نافح، و صانع و سايس، و لاعب و ضاحك (فهناك كوميديا سوداء)، و الأهم كانت الممانعة، و كل هذا يندرج فيما أصطلح على تسميته بالمقاومة الأولية (Primary Resistance) ، و هذه محدودة الأثر؛ فالسيف لا يتحدى المدفع إلا في الشعر كما غنى وردي (كيف بالسيف تحدى المدفع) و (كانت أسياف العشر) رحم الله وردي فهو من سعداء السودان لأنه غنى غناءً باذخًا أطرب كل السودان ورحل قبل يوم ١٥ أبريل ٢٠٢٣..
(٤)
حتى في شمال الجزيرة كان هناك تفاوتا كبيرا في مجريات الحرب وآثارها ف(قرى البحر) أو قرى الظلط (المقصود شارع الخرطوم مدني) وهي تلك التي تقع على ضفة النيل الأزرق الغربية و التي تمتد من (بتري) إلى (ود الماجدي) مرورًا بالكاملين كانت تجربتها متشابهة و ليست متطابقة باستثناء (التكينة) فقد قدمت تجربة متفردة، و هذه قصة ثانية لا بد من أن تروى في يوم من الأيام .. قرى( الضهرة) و هي التي تتوسط مشروع الجزيرة في تلك المنطقة فتجربتها هي الأخرى متفاوتة ف(السريحة) ثم (أزرق) سمع بهما كل السودان.. و يكتمل مربع هاتين القريتين ب(اللعوتة) ثم (ود لميد)، و لكل منهما تجربة متفردة؛ ف(ود لميد) أخليت تمامًا من السكان لزوم( الشفشفة) ثم فتحت عليها المياه فأضحت معظم المباني بين ساقطة أو آيلة للسقوط و أصبحت الكائنات الحية الموجودة فيها أسماك القرموط فقط.
(كاب الجداد) و قرى أخرى كانت فريسة للنسخة الثالثة من الدعم السريع. سكان شمال الجزيرة يقارب عددهم مليوني نسمة. و هم موزعون في مئات القرى التي كانت آمنة ونامية ومستقرة استقرارا يقارب عمره الـ ١٤٠ عاما و فجأة و بدون مقدمات و بصورة دراماتيكية ذهب ذلك الأمن و الاستقرار و التطور و الوداعة مع الريح .. أما (الكنابي) الكثيرة المتناثرة في المنطقة (لدي تحفظ كبير على كلمة كمبو) لكن نتركه الآن، فخطأ شائع خير من صحيح مهجور كما يقولون.. فهذه القرى المسماة كنابي عانى معظمها من هذه الحرب أكثر من القرى القديمة، ففي الشهور الأولى من الحرب قوبلت الكنابي بعدوان عنصري عنيف من جهة قوات الدعم السريع، و فيما بعد انضم بعض أبناء تلك الكنابي (أكرر بعض) للدعم السريع كما فعل بعض أبناء القرى القديمة و ساعات الضراوة لم يقتسم سكان تلك الكنابي المسالمة اللقمة مع سكان القرى الكبيرة بل تنازلوا لهم عنها. إن الكنابي أضحت من قرى الجزيرة و جزءًا لا يتجزأ من نسيجها الاجتماعي، و هذه قصة أخرى سوف نتوقف عندها في يوم قادم، ان شاء الله .
(٥)
في تفصيل لما ذكرنا في الفقرة السابقة و باختصار شديد نأخذ تجربة قرية اللعوتة، فهذه القرية يبلغ عدد سكانها حوالى ٢٥ الفا تقريبا وزاد بعد النزوح الذي أحدثته الحرب الي ثلاثين ألف تقريبا.. وهي من القرى الكبيرة و المنتجة هذه القرية قابلت العدوان بكل ضروب المقاومة الأولية من رفض وممانعة ومصانعة ومسايسة وقدمت خمسة شهداء أربعة خارج القرية وواحد داخلها. وغادر نفر قليل منها إلى خارج السودان بعد سقوط مدني كما شهدت استقرارا نسيبا في معظم عام ٢٠٢٤ لكنه كان استقرارا مشوبا بالحذر جرت تحته تفاعلات أدت إلى غزوها في ١٤ نوفمبر ٢٠٢٤ بمتحرك قتالي كامل قوامه عشرات العربات المقاتلة و مئات المواتر يقدر بثلاثة آلاف محارب، فشرد كل أهلها و ارتقى فيها ٢٥ شهيد رميًا بالرصاص، و أكثر من هذا العدد أثناء عمليات النزوح، و نهبت كل ممتلكات الأهالي من العربات إلى الملايات مرورًا بالأدوات الكهربائية و المحاصيل و الأنعام – جار الآن حصر الخسائر بواسطة مختص من أبناء القرية – و التي تصل إلى ترليونات أي عشرات الملايين من الدولارات و استمر الاجتياح لمدة ١٨ يوما (تفرزع) السكان فيها في الخلاء أي الحواشات المحيطة بالقرية ثم استجاروا بالقرى المجاورة والواقعة تحت سيطرة ذات الدعامة (الدعامة هو الاسم السائر في المنطقة لأفراد الدعم السريع) بما فيها الكنابي و قد استقبلوا استقبالًا يفوق حد الوصف، و بعد أن تمت عملية النهب التام للقرية (الشفشفة) عاد الأهالي للتمسك بجدران بيوتهم الخالية حتى من (الكدايس) و كانت كل البنى التحتية من مواسير مياه و محولات كهرباء و أبراج اتصالات قد حُطمت، و نهبت كل أدوات الطاقة الشمسية و شبكات الإستارلينك التي أشتريت من ذات أفراد الدعم. و الحال كذلك نزح حوالى ثلثي سكان القرية إلى ولايات السودان الأخرى. كانت عمليات النزوح هذه عالية المخاطر غالية التكلفة لأنها بواسطة الدعامة الذين احتكروا قطاعي النقل و التجارة، و للمفارقة أن العربات و البضائع قد تمت (شفشفتها) من ذات المواطنين (فالدعامة اتقنوا آليات الاحتلال دون تخطيط منهم!!! ) نزحوا من أجل الأمن و بعضهم من أجل التعليم و العلاج و بعض الشباب للعمل إذ طالت بهم العطالة.. بقى الثلث الآخر من السكان يقاوم ويحاول إعادة الأعمار وانتهت المقاومة الأولية بإعادة سيطرة القوات المسلحة على المنطقة ساعة كتابة هذا المقال تم تحرير معظم الجزيرة و أصبحت القوات المسلحة على تخوم حدود الخرطوم الجنوبية.. النازحون من القرية لم يقيموا في دور إيواء أو معسكرات نازحين، إنما استأجروا منازلًا و صرفوا على أنفسهم من حر مال أبنائهم المغتربين. المغتربون و أبناء القرية المقتدرين هم الذين (شالوا الشيلة) في كل مراحل نكبة القرية.
(٦)
قصدنا من الفقرة أعلاه القول بأنه يجب عدم السقوط في مستنقع التعميم فلكل منطقة تجربة في الحرب ولها تفاصيل مختلفة لذلك لابد من تجميعها كلها وربطها بما يدور علي المستوى القومي والاقليمي والدولي ومن الخيوط التي يمكن تتبعها لهذا الربط المال السياسي و ما أدراك ما المال السياسي، فهو يربط بين من يرتدي أشيك بدلة في العالم و آخر يمشي (ملط) لم تعرف الملابس إليه سبيلًا لن يلتقيا، و لكنهما مسخران لهدف واحد يبتغيه دافع المال، و مثال آخر للربط ففي ذات اللعوتة كانت المعاملة بين الجاني و المجني عليه تتأثر بما يجري بعيدًا عن القرية؛ فمثلًا موقف الحكومة الرافض لمفاوضات جنيف انعكس على القرية بالمزيد من العنف و التنكيل علمًا أن قرار المفاوضات كان قرارًا أمريكيا بدعم إقليمي والرفض كان قرارا حكوميا سودانيا هكذا دفع مواطن القرية الغلبان ثمن َموقف سياسي تبلور في عواصم بينه وبينها بيداء دونها بيد على قول المتنبي. الرصاصة التي سقت أرض اللعوتة من دم الشهيد (مهند عمر يوسف) في 25 ديسمبر ٢٠٢٣ و هو أول الشهداء داخل القرية إلى الرصاصة التي أودت بحياة الشهيد (بابكر محمد علي إبراهيم) في الأسبوع الأخير من يناير ٢٠٢٥ و هو آخر شهيد في القرية، و ما بين هذين الشابين النضرين من كوكبة شهداء أيام الاجتياح هذه الرصاصة كانت تحملها يد ليس لها معرفة بصناعتها، و كان يطلقها عقل مغيب و لسان ينطق بكلمات لا يُعرف معناها، فالجاني رغم أنه مسؤول جنائيًا هو الآخر ضحية لأنه نفذ ما كان يدور في فنادق (مدن بعيدة تنوم و تصحى على مخدات الطرب) كما غنى حمد الريح في الساقية (رحم الله حمد فهو من سعداء السودان لأنه رحل قبل ١٥ أبريل ٢٠٢٣) .. فالعالم أصبح قرية ليس في الإعلام و (الهيشك بيشك) إنما أيضًا في الموت و الدمار.
(٧)
على المؤسسات الأكاديمية و الصحفية و كل الجهات المهتمة بالمعرفة واجب القيام بالدراسات المعمقة لهذه الحرب و منذ يومها الأول، و ذلك بتجميع كل التفاصيل و في كافة بقاع السودان و ربطها بمسبباتها على كافة الصعد الدولية و الإقليمية.. ففي هذه المرحلة يجب القيام بعملية الرصد و المتابعة لكل يوميات الحرب ثم يأتي بعد ذلك التحليل و الاستنتاج وبالتالي استخراج الدروس و العبر.. و الآن مع إتساع المعرفة و تطور التقانة وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، يجب أن يقوم أهل السودان المعاصرين بكتابة تاريخ هذه الفترة بأنفسهم و لا يتركوه لذوي الأجندات لكي يكيفوه على هواهم. إن ما يجري الآن في بلادنا ناتج جزئيًا من الغش و التزوير الذي حدث في تاريخنا.. إن الذين أرخوا للسودان الحديث من أمثال (ماكمايكل) و (ترمنغهام) و (هولت) و (نعوم شقير) و كل المؤرخين السودانيين (كتر خيرهم)ما قصروا وان كان فيهم من صور لنا فترات مظلمة من تاريخ السودان بأنها كانت مشرقة.. ولكن نكبة السودان الحالية يجب أن يؤرخ لها أي سوداني عايش هذه الأحداث فهو جبرتي قائم بذاته (المؤرخ المصري الجبرتي هو الذي قام برصد يوميات حملة نابليون في مصر) يجب الإسراع بالتوثيق لأن كل الشهود حاضرين الآن ومن رأى ليس كمن سمع فليس هناك مجالا للتزوير و التدليس، فلا تضيعوا هذه الفرصة و يجب أن نتخذ منهجًا علميًا في الرصد و المتابعة، و ذلك بإنشاء قواعد بيانات فرعية لتصب في قاعدة بيانات عامة و عدم تجاهل ما كابده المواطن العادي في هذه الحرب. إن جمع المفرق من مشروعيات البحث العلمي فالتاريخ الحقيقي ليس تاريخ القادة و متخذي القرار وحدهم، إنما هو أيضًا تاريخ من وقع عليه فعل الفاعل، فالشاعر الألماني ذائع الصيت (بيرخ) يقول “مدينة طيبة ذات الأبواب السبع .. من الذي انشأها؟ هل حمل الملوك كتل صخرها.؟. ..”. إن ما حدث لنا من كارثة لم تهبط من السماء إنما خرجت من غفلتنا و جهلنا هذا له ثلاثة مكونات محلي و إقليمي و دولي.
(٨)
عذرًا عزيزي القاري أرجو أن تسمح لي ببعض الأسطر أنكفي فيها على الذات دون الخروج عن الموضوعية في هذا المقال بل تدعيما لها فأصلاً انا كنت متوقف عن الكتابة الصحفية منذ مارس ٢٠٢١ و برسالة للأستاذ الصديق/ عطاف محمد مختار رئيس تحرير صحيفة السوداني المحترمة، ف(البطن كانت طامة) مما يجري في الساحة السياسية و بعد اندلاع الحرب أصبح التوقف إجباريًا و النفس (انسدت) أكثر من الكتابة، و أنا اكتب هذا المقال ب(جاز المصافي) و هذه بلغة السواقين تعني أن وقود الخزان( التنك) قد نفد. فليست لدى أي رغبة أو قدرة على الكتابة لا إجرائيًا و لا موضوعيًا فمن ناحية إجرائية فليست لدي أدوات الكتابة من لابتوب و منضدة و كرسي فالجماعة ( شفشفوا) كل البيت و تركوه قاعًا صفصفًا، فأنا الآن أكتب على الموبايل رغم صغر الكيبورد و ضعف النظر.. أما من ناحية موضوعية فإني أشعر بأنني ليس ذلك الشخص الذي كان قبل ١٥ أبريل ٢٠٢٣ ، فالروح مجروحة و الخاطر مكسور و (الحيل مهدود) و الوجدان مضطرب و النفس حزينة و الزهد في أي شئ أصبح سيد الموقف، فما زلت غير مصدق لكل الذي جرى. إن ما كابدناه لم نره في أعتى أفلام الرعب الخيالية. إنه لا يمكن أبدا أن يصبح مجرد ذكريات (فالدخلت فينا ما بتمرق تاني)، و يبدو أن قول الحلنقي البليغ قد انطبق علينا (حسرة سنيني الراحت ما بترحم الجايات) ولكن في نفس الوقت يلح العقل على بضرورة الابتعاد عن الياس والإحباط والعمل مع الآخرين لتعمير القرية المنكوبة وعلى المستوى القومي بذل جهد المقل في بناء الوطن المغدور من جديد وليس إعادة بناء الذي ذهب مع الحرب فذلك قد قام على أسس واهية وهذه قصة أخرى هامة لابد لها من وقفة قادمة.
(٩)
السبب المباشر في الكتابة اليوم هو أنني وجدت فرصة ثمينة في شبكة الاستارلينك كما وجدت فرصة أثمن لشحن الموبايل بالطاقة فتصفحت الكثير من المواقع والدردشات فوجدت سودانا إسفيريا مختلفا غير الذي نعيشه نحن هنا.. تأكدت أن الهوة متسعة جدا بين السودانينِ الإسفيري والواقعي فقلت أرسل هذه الكلمات عسى أن تكون طوبة في مدماك الوصل بين السودانين.. إن الهوة الواسعة بين السودان الاسفيري والواقع سوف يدخل منها شر مستطير لذلك لابد من تدارَكها. فإن شاء الله هذا ما سوف أواصل الدندنة فيه ولكن بعد فترة بسبب بعض المراجعات الطبية فالحرب قد حولت (الموية البيضا) في العين إلى سوداء (جلاكوما) كما أن الظهر والقلب و(حاجات تانية حامياني) تحتاج إلى مراجعة فقد كنا في حالة (ملاوة) مع الموت كما قالت إحدى الفضليات. فإن كان الموت مشكورا قد أجل ضربته القاضية الحتمية واعطانا زمنا إضافيا وضربات جزاء لكنه ترك مقدماته فينا فدعواتكم لنا بتجاوز آثار هذه الملاوة . إنني اناشد كل الذين يرون أن السودان الاسفيري سوف يؤدي بالسودان الواقعي أن يتركوا الكسل و يقتحموا الأسافير و يحكوا عن الواقع ليجعلوا أجندته هي السائدة بدلا من (خمج) الأسافير.
(10)
لابد من (كسرة) لكسر حدة هذا المقال الذي طال بسبب احتشاده بروؤس المواضيع، ففي تصفحي المشار إليه أعلاه وجدت مقالة اقتطف فيها كاتبها أسطرًا من مقال للراحل (صديق مضوي) عن الحدود قال فيه “إن حدود السودان الحالية نعمة عليه و لكن قد تكون نقمة إذا لم نحسن إدارتها”. و قال الكاتب إن ما حذر منه صديق قد حدث الآن، و الإشارة للحرب الحالية و بالمناسبة دكتوراة صديق كانت عن حدود السودان، و قد كانت رسالة علمية مجودة يمكن أن تخرج منها عدة أوراق عمل (Working Papers) و لكن من يقرأ و من ينشر؟! منعتني الدموع المنهمرة من إكمال المقال فسرحت مع طيف الصديق فتذكرت قصة عمرها أكثر من نصف قرن تدل على نبوغ الصديق المبكر، فعندما كنا تلاميذًا في رابعة أولية أعمارنا بين الحادية عشر و الثانية عشر، و في غمرة الاستعداد لإمتحان الدخول للمرحلة الوسطى أعطانا الأستاذ اختبارًا تجريبيًا في مادة الدين، فأحرز معظمنا الدرجة الكاملة فقد كان الاختبار سهلًا (موية بس) بلغة تلك الأيام، لكن الصديق نقص درجة فتأكدت أن في الأمر شيء غير عادي، فذهبت إليه بعد خروج الأستاذ و سألته عن غلطته، فقال لي “ما عندي غلطة” .. (أها الحصل شنو؟) فقال لي “أن السؤال الذي يقول متى تزوج الرسول صلى الله عليه و سلم السيدة خديجة طبعا كلكم أجبتم بأنه عندما كان عمره ٢٥ عامًا لكن أنا أخذت تاريخ ميلاده في عام ٥٧١ ميلادية و أضفت إليها ال٢٥ سنة فكانت اجابتي عام ٥٩٦ م لأن السؤال لم يكن كم كان عمره بل كان متى” فأندهشت و أعجبت أيما إعجاب بما قاله، فقلت له “طيب ياخي أمشي راجع الأستاذ”، فقال لي “ما في داعي طالما أنا عارف الصاح”، فألححتُ عليه و دفعته دفعًا للدخول على الأستاذ في المكتب، و عندما شرح له الصديق إجابته ما كان من الأستاذ إلا و أن أخذ الورقة و كرفسها و قذفها بالشباك قائلا لصديق “بلاش فلسفة معاك”، أها (شفتو كيف الوجع قديم؟) رحم الله ذلك الأستاذ و غفر له و لصديق و لنا جميعا.