مقالات الرأي
أخر الأخبار

مآلات استبدال العملة في السودان – نقص السيولة.. بقلم/ أ.د عبدالمنعم محمد الطيب “خبير اقتصادي و مصرفي و أكاديمي”

نجحت الدولة في القيام بمهام جليلة في ظل ظروف بالغة التعقيد بدءاً بالدفاع عن الوطن و صونه فكانت اليد الأولى لجنود حملت السلاح في جميع الثغور (الذين دافعوا بأموالهم و أنفسهم و تركوا أسرهم، فكانوا أكثر منا جهداً و أعظم أجراً) ، أما اليد الثانية، فقد ساندت من يحملون الأقلام بهدف رسم المستقبل في النجاح بالجلوس لامتحانات الشهادة السودانية داخل و خارج السودان بتميز و جودة عالية، (فالتحية لمعلمي بلادي على هذا الجهد و الترحم على أستاذنا المغفور له –الأستاذ (محمود سر الختم الحوري) و من خلفه طاقم الوازرة الذي أكمل المسيرة و حقق المنشود) ، و اليد الثالثة هي التي ساهمت في الإدارة الاقتصادية في ظل شح الموارد المحلية و الأجنبية (بالسعي نحو توفير الاحتياجات الأساسية و معينات الحرب)، أما اليد الرابعة فهي البنك المركزي و القطاع المصرفي بكافة تشكيلاته التي أصرت على القيام باجراءات استبدال العملة، إذ تم أداء هذه المهمة من خلال ترتيبات سابقة و لاحقة أكدت مدى القدرة في العمل في ظروف الضغط (و لا تزال هذه المهمة مستمرة و لها ما بعدها).

في ظل التطورات للقوات المسلحة التي أحرزت نجاحات منقطعة النظير و في أوقات زمنية وجيزة، مما يساهم في عودة الكثير من المهجرين قسراً إلى مناطقهم، مما يشير إلى التوسع في عملية الاستبدال في القريب العاجل لتشمل ولايات ذات ثقل سكاني و مصرفي، و هذا يستوجب أن تكون هناك خطوة و مرحلة جديدة للاستبدال تتطلب الإعداد لها بشكل جيد و تخطيط يأخذ في الاعتبار تجنب التحديات و السلبيات التي صاحبت عملية الاستبدال الأولى.

من التحديات التي واجهت عملية الاستبدال الأولى هو نقص السيولة لدى أفراد المجتمع الذين لا يتعاملون مع النظام المصرفي، و لا شك أن هذه المرحلة أنتجت دخول نسبة مقدرة من أفراد المجتمع إلى هذه المنظومة، فما هو الدور الذي ساهمت به الأطراف ذات الصلة في معالجة إشكالية نقص السيولة التي واجهها عمال المواني و تم حلها بواسطة إدارة بنك السودان المركزي؟ و كيف نستفيد من تلك الحلول في مواجهة تحديات ذات صلة بولايات أخرى؟. و هل مشكلة نقص السيولة في الأسواق العامة قد تؤثر مستقبلاً في أن ما يخرج من الفروع المصرفية من أوراق نقدية قد لا يعود إليها مرة أخرى؟. لذا فإن هذا الجانب يحتاج الى تحليل و دراسة، فقد يكون الهدف هو الانضباط المالي للدولة من خلال مؤسساتها الحكومية، و التحول إلى التعامل الإلكتروني بين جميع أفراد المجتمع، و تبقى الاستجابة لذلك هي أحد أسباب النجاح، كما أن الانسياب الطبيعي في عمليات الإيداع و السحب هو الذي يؤكد عدم وجود إشكالية، لكن تداول الأوراق النقدية الجديدة المستبدلة خارج النظام المصرفي دون رجوعها بالكامل أو بنسب ضعيفة جداً يبرز تلك الإشكالية، و بالتالي لا يؤدي الى تحقيق النتائج المرجوة، لذا فإن الثقة بين الأطراف المتعاملة مطلوبة، كما أن المصارف نفسها قد استفادت من عمليات الاستبدال من خلال ارتفاع نسبة الشمول المالي و نسبة السيولة إلا أن الاستدامة في المحافظة على هذه الودائع و استقرار الارصدة هو الفيصل. لا بد من تحليل مهني لمسار الايداعات و السحوبات منذ بدء عملية الاستبدال و حتى الآن، نخشى أن تكون معظم الحسابات صغيرة الحجم و الأرصدة قد أصبحت بدون رصيد.
في اعتقادي أن التحول للنظام الرقمي بواسطة المصارف يتطلب جهداً تكاملياً من الأطراف ذات العلاقة، بدءاً بالقدرة على تشغيل التشبيك و المقاصة الآنية بين المصارف و الحسابات المصرفية دون ابطاء و بحرية كاملة، و ليس التقييد سواء كانت بشكل متعمد أو غير متعمد (لذا فإن دور البنك المركزي و اتحاد المصارف يجب أن يكون فاعلاً بتفعيل الميثاق المهني بين المصارف و الذي يتم من خلاله تغليب المصلحة العامة للقطاع على أن تظل هناك منافسة شريفة قائمة على التعاون).

إن التحول الرقمي يتطلب جهداً كبيراً من قبل المصارف بمختلف تشكيلاتها بضرورة تحديث الأنظمة التقنية و حل الإشكالات التي واجهتها في ظل الحرب، و قد برزت بعض الأقلام التي تطالب بضرورة توزيع الودائع بين المصارف بهدف عدم السيطرة و الاستحواذ من مصارف بعينها، إلا أنه ليس من العدل أن تحرم مصارف كان لها السبق في التطور و كسب الثقة و تحويل مواردها من الودائع بقوة القانون و الإلزام إلى مصارف أخرى ظلت نائمة و غير متواجدة في الخارطة المصرفية، إن المحك الرئيسي يرتكز على تقييم المصارف لنظمها الإدارية و التقنية و تطويرها و تقدير مخاطرها لكي تظل في المنافسة حتى لا تضطر إلى الانسحاب و الخروج من الخارطة المصرفية في الأجل القصير.

إن عملاء القطاع المصرفي بكافة تشكيلاتهم هم من تسعى جميع الأطراف إلى كسب ودهم و خدمتهم، يجب عليهم التوافق بدرجات متفاوتة في التعامل مع النظم التقنية من أجل تحجيم التعامل بالسيولة النقدية في المعاملات التي لا تتطلب ذلك، لكن في ذات الوقت نقر بأن لديهم بعض المعاملات التي تستوجب التعامل النقدي، و هنا لا بد من جميع الأطراف أن تسعى الى حلها، من خلال طرحها بشفافية و إيجاد طرق و آليات للحل استناداً إلى خارطة طريق واضحة المعالم ذات آجال مختلفة ( الأجل القصير –الأجل المتوسط –الأجل الطويل) حتى نتجنب الممارسات السلبية التي ظهرت في الآونة الأخيرة، كمسألة التبديل لمبالغ في الحسابات ب(الكاش) من خلال ما يسمى ب(الكسر) حقيقة لا نرغب في إنتاج سوق (مواسير) آخر له تأثيراته السلبية على الاقتصاد.

إن الدور الأهم يقع على مؤسسات الدولة باعتبارها اللاعب الرئيسي و حجر الزواية و المصدر الأول للتعامل النقدي، بحكم المعاملات اليومية و الدورية التي تتطلب تعاملاً مباشراً مع جمهور المتعاملين كقوات الشرطة التي تتولى معاملات السجل المدني (الرقم الوطني، شهادات الميلاد، الجوازات، البطاقات الشخصية، رخص القيادة و السيارات، المعاملات المرورية….)، و يمتد الأمر إلى وزارة المالية و التخطيط الاقتصادي من ضرائب و رسوم جمركية، و وزارات التعليم العام و العالي و الخارجية، و كل المؤسسات و الوحدات الحكومية، عليه فإن دخول هذه الوحدات إلى منظومة التعامل الإلكتروني يعتبر أساساً للنجاح، و يقلل من توظيف السيولة من أجل الحصول على الخدمات الحكومية كأحد الحلول الآنية المتاحة و التي يمكن أن يتكامل دورها مع البنك المركزي و الأطراف ذات العلاقة.

لا شك أن هناك دور كبير ينتظر القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي، لا سيما من خلال برامج إعادة الإعمار، والقطاع المصرفي الذي يمثله اتحاد المصارف السوداني (الممثل المهني للمصارف)، و البنك المركزي كمراقب و مشرف على القطاع المصرفي، و وكيل للحكومة و مستشارها و الدولة ممثلة بمؤسساتها و وحداتها.

ينبغي أن نشير الى الدور المتعاظم الذي تقوم به اللجنة العليا لاستبدال العملة و التي ظلت في اجتماعات متواصلة من أجل إنجاح البرنامج وفق ما هو مخطط، و التي يترأسها الفريق إبراهيم جابر – عضو مجلس السيادة الانتقالي، و تضم في عضويتها حاكم إقليم دارفور، و وزراء العدل، و المالية، و الداخلية و النائب العام ،و محافظ بنك السودان المركزي ونوابه، و ممثل جهاز الأمن و المخابرات و مدير عام الشرطة و أعضاء آخرين، و نبعث لهم رسالة بضرورة إيلاء الاهتمام بمسألة نقص السيولة و معالجتها في إطارها الكلي و الجزئي كتحدٍ حقيقي.

في الختام أرى أن نسارع بمعالجة التحديات التي تواجه بلادنا الحبيبة و سودان العز بالتفاكر و التعاضد و تبادل الآراء من أجل بناء مستقبل مشرق للأجيال القادمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى