الصحيفة الإلكترونية
أخر الأخبار

مافي قبيلة بتغلب دولة… بقلم/ السفير كرار التهامي

————————————————
الدولة نَفَسها طويل ولا شيء ينتصر أكثر من الانتصار ……
————————

▪️في أيام سلفت و على عهد حكومة الإنقاذ، وفي مجلس واسع تحدث أحد الولاة والذي نشير اليه هنا (بالحكيم) أو (الحزين) لأن حديثه كان مليئاً بالحكمة و الشجن وهو يحكي عن أبناء جلدته الذي امتلكوا السلاح والمال والتجارة والنفوذ، ثم انخرطوا في الصراع مع الدولة بدعاوى أو أخرى، فتبدّد شملُهم، ويسترسل الحكيم في وصف جماعته كيف كانوا و كيف صاروا بعد الحرب، و ما أصابهم من ضرر و بوار وخُسران مبين بسبب حربهم ضد الدولة، وكيف أن شوكتهم انكسرت، و أن أموالهم أُهدرت، و هيبتهم انثلمت بسبب ذلك، ختم الرجل حديثه بأن قومه كانوا في الماضي إذا اجتمعوا في مناسبة فرح أو كره لهم هيبة وحضور طاغي بأموالهم وسياراتهم الفارهة لكن اليوم يبدو عليهم البُؤس والشح.

▪️هذا يعود بنا إلى قصة الخروج على الدولة ليس في السودان فقط، ولكن في كافة البلاد الأفريقية المأزومة التي لا زالت الدولة فيها ناقصة النمو (not fully fledged) ؛ فالدولة -أي دولة- نفَسَها طويل، والطريق الوحيد للنيل منها هو أخدها على حين غرة، أو الانقلاب عليها و إذا تحول الصراع إلى ماراثون فالدولة هي التي تكسب في (اللفة).
▪️لذلك لم تنجح بوكو حرام في النيل من الدولة في نيجريا، و لا جيش الرب في يوغندا، ولا الشباب في الصومال، ولا الطوارق في مالي، و لا المسايا في كينيا، ولا عرب الصحراء في النيجر، ولا الدعم السريع في السودان ولا الهوتو في رواندا. هذا الادّعاء ليس بالتمنيات ولكن بوقائع التاريخ الشاخصة.

▪️يلخّص جورج واشنطن القائد العسكري لجيش الاستقلال الأمريكي والذي أصبح بعد الحرب رئيسا لأمريكا فكرة التطاول في مدة الحرب بقوله: ”كلما جعلت أمد الانتصار أبعد ستكون النهاية المحتومة أن يعلن العدو خسارته للحرب“.
▪️قال جورج واشنطن ذلك بعد هزيمة الجيش الأمريكي الذي كان يقوده في معركة بروكلين، واضطراره للانسحاب إلى مانهاتن بالقوارب مما أدى إلى إنقاذ الجيش القاري من الوقوع في الأسر، و يقول المحلل العسكري (آدم توم) في نفس المعنى: “الجيش يمكن أن يخسر معارك لكن استمراره على أية حال سيجعله يحقق الانتصار”.

▪️ذلك مايحدث الآن في السودان في الحرب الغادرة؛ فكلّما طال الأمد يفقد المتمردون زخم البدايات، ويخسرون نتائج انتصاراتهم التكتيكية، هذه (الفنجطة البدائية) التي يدخلون خلالها المدن بعدد محدود من السيارات والمقاتلين، والقيام بالنهب والسرقة ثم ينتظرون مطرقة القدر، الأمر الذي لا يتسق وقوانين الحرب وقواعد الاشتباك الذكي في التقدم أو التقهقر والسيطرة.

▪️لاحظ في البداية الموقف المساند للتمرد من دول الجوار، ثم التراجع الكبير من هؤلاء أمام صمود الدولة التي ظنوا أنها ستنهار من الوهلة الأولى، و كما يقول المفكر (هاورد والاس): ”لا شيء ينتصر أكثر من الانتصار، nothing succeeds than success “، لذلك جاء أبي أحمد إلى الدولة التي شكّك في شرعيتها كسير الخاطر، حيث تجلت الرومانسية السياسية في طريقة الاسقبال وزراعة الأشجار والخلوة الرئاسية و سيتراجع كاكا و توتو وغيرهم من (البابتسوات) مرغمين.

▪️عنوان هذا المقال ليس موجهاً ضد قبيلة بعينها ولكنه تأكيد لحقيقة تاريخية تجلت في الحصاد السياسي و التاريخي لشعوب كثيرة خرجت فيها عصبية القبيلة إلى فضاء السلطة متوهجة، لتؤسس المُلك وتُشعِل الصراعات قبل بزوغ نجم الدولة الحديثة التي أطاحت بالقبلية أو قلّمت أظفارها.

▪️يقول ابن خلدون: “لا يوجد حكم قويّ بدون عصبية”، لقد كان السلطان فيما مضى يقوم على عصبية القبيلة و هي حسب ابن خلدون تعني “الروابط القوية بين أفراد القبيلة أو المجموعة الاجتماعية، والتي تنشأ من القرابة والولاء المشترك. هذه العصبية تمنح القبيلة قوة وتماسكًا يسمح لها بالتغلُّب على القبائل أو الجماعات الأخرى”.
▪️تبدلت العصبيّات بمرور الزمن، فتعمّقت العصبية الأيديولوجية والعصبية الدينية والعصبية الرأسمالية و هي ركائز لمختلف أنواع الأنظمة اليوم في العالم، و لم تعُد القبيلة في الحسبان إلا كوسيلة ضغط بدائية لمطالب فئوية قصيرة النظر.

▪️ الآن بعد انتهاء الحرب يجب أن تكُف أي قبيلة عن ابتزاز الدولة، و أن يخلو العقد الاجتماعي لدولة ما بعد الحرب من أي تلميح أو امتيازات لأيّة مجموعة مهمشة أو غير مهمشة كما فعلت رواندا حتى لا يكثُر المخادعون الذين يستغلون القبيلة كلب صيد لافتراس مصالحهم الخاصة ضد المجتمع، مع العلم بأنه مهما تسلحت القبائل و ادّعت و أرغت و أزبدت فليس هنالك “قبيلة بتغلب دولة”؛ سيكون مصيرها مصير قبيلة (الحكيم) التي هانت و لانت و تبدّد شملها أو مصير القبائل التي تحترق الآن في النار التي أشعلتها.

٢٢-٧-٢٠٢٤

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى