مقالات الرأي
أخر الأخبار

وجه الحقيقة … أقنعة الموت: دراما التحولات الاجتماعية و السياسية .. بقلم/ إبراهيم شقلاوي

تُعد الدراما من أكثر الوسائط الفنية قدرةً على تحليل و تحويل الواقع إلى مادة بصرية قادرة على إثارة الوعي و إنتاج المعنى بصورة مؤثرة، يعتبر مسلسل (أقنعة الموت) للمخرج (أبوبكر الشيخ) الذي يعرض هذه الأيام في قناة (الزرقاء) الفضائية تجربة درامية سودانية مميزة ذات طابع توثيقي سياسي، حيث يسعى إلى نقل الواقع السوداني خلال الحرب الحالية بين الجيش السوداني و مليشيا الدعم السريع. المسلسل يطرح نفسه كعمل فني لكن بأبعاد سياسية واضحة، مما يجعله مادة خصبة للتحليل و النقد من زوايا متعددة، أبرزها توظيف الدراما كأداة مقاومة سياسية و مدى تحقيقه للتوازن في السرد و تأثيره على الوعي العام.

المسلسل يبدو أقرب إلى كونه شهادة درامية على مجريات الأحداث منذ اندلاع الحرب في 15 أبريل، حيث يعتمد على التصوير المباشر للأماكن التي شهدت معارك و انتهاكات مما يعزز مصداقيته كعمل توثيقي. اختيار مواقع التصوير مثل أحياء أم درمان التي تأثرت بالحرب، يكشف عن توظيف الدراما كسلاح مقاومة فني ضد المليشيات، و يعيد للأذهان نماذج عالمية في استخدام الدراما كأدوات سياسية، مثل الأفلام التي وثقت الحروب الأهلية في يوغسلافيا و سوريا و رواندا.

يُظهر المسلسل كيف فرضت الحرب واقعًا قاسيًا على المجتمع السوداني، حيث تبدلت العلاقات الاجتماعية و العائلية تحت وطأة العنف و الموت. فالخراب لا يقتصر على البيوت و المرافق العامة، بل يمتد إلى تفكك الروابط بين الناس. و مع ذلك لا يسعى المسلسل لمجرد إظهار هذه التحولات، بل يُقدمها كجزء من حالة مستمرة من الكفاح البشري ضد الفوضى. ففي مشاهد متقنة يعكس المسلسل الآثار النفسية العميقة التي تركتها الحرب على المدنيين الذين أصبحوا ضحايا القتل و التهجير القسري، لكنه في نفس الوقت يُبرز ملامح التضامن بين الأفراد في ظل الكارثة.

المسلسل لا يكتفي بنقل الأحداث، بل يستخدم لغة سياسية مباشرة في نقد ما يسميه “عملاء السفارات”، و هو مصطلح شاع استخدامه في السودان لوصف بعض النخب التي ترتبط بمصالح خارجية. هذا الطرح يعزز من الطابع التعبوي للعمل، و يضعه في خانة الدراما الموجهة سياسيًا، و هو أمر لا يقلل من قيمته، لكنه يجعله مفتوحًا للنقد من زاوية التوظيف السياسي للدراما.

في جانب اللغة البصرية و أسلوبية الإخراج يوظف المخرج أبوبكر الشيخ مجموعة من الأساليب الإخراجية التي تعزز من التأثير العاطفي و المعرفي للمسلسل؛ إذ يعتمد على “التصوير اليدوي” (Handheld Camera) في بعض المشاهد لنقل الشعور بالتوتر و عدم الاستقرار، و يستخدم الإضاءة الطبيعية لتعزيز الواقعية مما يجعل المشاهد أكثر انغماسًا في التجربة الدرامية. إضافةً إلى ذلك فإن توظيف الصمت كمكون دلالي في لحظات معينة، يعكس حجم المأساة، و يتيح للمشاهد استيعاب عمق الأزمة دون الحاجة إلى المبالغة في الحوار أو الموسيقى المصاحبة.

يعتمد المسلسل على بنية سردية تستلهم تقنية “الواقعية التسجيلية” (Documentary Realism)، حيث تصبح المواقع الطبيعية بديلاً عن الديكورات المصطنعة، ما يعزز من موثوقية المشاهد و يزيد من قوة الخطاب الدرامي. فمشاهد البيوت المهجورة، الجدران المثقوبة بالرصاص، و المساجد التي أُفرغت من مرتاديها، ليست مجرد خلفيات سينوغرافية، بل هي دلالات بصرية تحيل إلى سياقات الحرب و النزوح، و تجعل من المشاهد ذاته “شاهدًا متلقيًا” على الفظائع التي ارتكبتها مليشيا الدعم السريع.

قام المخرج أبوبكر الشيخ باختيار مجموعة من أفضل نجوم الدراما السودانية لتجسيد شخصيات المسلسل، و كانت هذه الاختيارات محورية في نجاح العمل و إيصال رسالته. من أبرز الممثلين في المسلسل الفنان (صالح عبد القادر) الذي أبدع في تقديم دور الشخصية التي تعكس ملامح المعاناة الإنسانية. فبأسلوبه الفطري و قدرته الفائقة على تجسيد الألم و التوتر الداخلي، جعل الجمهور يتفاعل بشكل عميق مع الأحداث. إلى جانبه تميز (أحمد البكري) الذي قدم أداءً قوياً في تجسيد شخصية تقاوم الظلم و تبحث عن الأمل في وسط الفوضى مما أضاف بُعدًا إنسانيًا للمسلسل.

كما كانت (ناهد حسن) بكلماتها المعبرة و تفاعلها الجسدي مع الأحداث، أحد أبرز الأسماء التي برعت في تجسيد شخصية امرأة تجاهد في ظروف الحرب القاسية. (كامل الرحيمة) ، و (عزة محمود)، و (إلهام مصطفى)، إضافة إلى (بابكر سلك) و (قسم الإله حمدنا الله)، جميعهم قدموا أدوارًا رائعة تتناغم مع جو العمل الدرامي. هذه المجموعة من الممثلين نجحت في خلق شخصيات حية و واقعية تتنقل بين آلام الحرب و آمال الحياة، مما عزز من مصداقية الرسالة الفنية للمسلسل و عمق تأثيره على المتلقي.

أسلوب المخرج أبوبكر الشيخ في “أقنعة الموت” يعد من العوامل الأساسية التي ساهمت في نجاح العمل. الشيخ نجح في استخدام تقنيات التصوير المبتكرة و الاعتماد على الإضاءة، مما منح المسلسل مظهرًا مؤثرًا يعكس الحالة النفسية لشخصياته. كما تميز بقدرته الفائقة على توظيف الصمت في بعض المشاهد، ما جعل المشاهد أكثر تأثيرًا و أعمق في إيصال المشاعر. الشيخ بتوجيهه البارع للممثلين و اختياره الدقيق للمواقع التي تم فيها التصوير، نجح في تقديم تجربة درامية تلامس الواقع السوداني و تعرض معاناة الشعب في ظل الحرب. كما أن عمله يعكس قدرًا من الجرأة، حيث لم يخف من عرض الحقائق القاسية المتعلقة بالظروف المعيشية و النزوح مما منح المسلسل طابعًا نقديًا سياسيًا قوياً.

رغم النجاح الفني للعمل، فإن مسلسل أقنعة الموت يتعرض لانتقادات من بعض النقاد الذين يرون أن العرض المكثف للمشاهد العنيفة قد يشكل عبئًا نفسيًا على المشاهدين، خاصة في ظل الأوضاع الحالية. فبينما يرى البعض أن هذه المشاهد تساهم في توصيل الواقع القاسي، يشير آخرون إلى ضرورة توخي الحذر في عرض مثل هذه المشاهد لتفادي تأثيراتها السلبية على الجمهور.

أقنعة الموت هو عمل درامي نراه يعكس وجه الحقيقة يتجاوز سرد الأحداث ليُصبح وثيقة بصرية تُسجل جزءًا من تاريخ السودان المأساوي. مع تطور الدراما السودانية، سيكون لها دور حاسم في المساهمة في إعادة بناء الهوية الاجتماعية، إذ تمكننا من مواجهة الماضي بعين نقدية، و رؤية مستقبلية مليئة بالأمل لإعادة ترميم النسيج الاجتماعي. لا شك أن مسلسل “أقنعة الموت” يمثل علامة فارقة في المشهد الدرامي السوداني، حيث استطاع أن يجمع بين البعد الجمالي و الطرح النقدي العميق. إنه عمل يتجاوز حدود السرد التقليدي، ليصبح شهادة بصرية على جرائم الحرب و نداءً دراميًا لاستعادة قيمة الأمن و السلام.
دمتم بخير و عافية.
الإثنين 10 مارس 2025 م Shglawi55@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى