وجه الحقيقة … السودان: المصالح في خدمة الأمن القومي .. بقلم/ إبراهيم شقلاوي

في خضم الأزمات الداخلية و التحديات الإقليمية و الدولية، يبدو أن السودان بدأ جادًا في الذهاب إلى خيارات إستراتيجية لضمان مصالحه الوطنية و أمنه القومي، حتى لو كان ذلك يعني اتخاذ مواقف جريئة قد تثير غضب بعض القوى الإقليمية و الدولية. في ظل تعقيدات المشهد السياسي و الاقتصادي الراهن، يسعى السودان إلى إعادة تعريف سياساته الخارجية بما يخدم مصالحه الوطنية بعيدًا عن الضغوط من خلال تعزيز شراكاته مع قوى دولية كبرى مثل روسيا و إيران و الصين، هذا يكشف أن الخرطوم بدأت تتبنى نهجًا عمليًا يوازن بين تحقيق الأمن القومي و دفع عجلة التنمية الاقتصادية.
أعلن وزير الخارجية السوداني (علي يوسف) مؤخرًا عن “اتفاق كامل” مع روسيا لإنشاء قاعدة عسكرية بحرية روسية على ساحل البحر الأحمر مما يفتح الباب لتعاون عسكري بين البلدين. هذا الاتفاق الذي جاء بعد جولات تفاوضية امتدت لسنوات يعكس تحولًا في إستراتيجية السودان الخارجية لخدمة أمنه القومي من خلال تعزيز قدراته الدفاعية بالتعاون مع قوى كبرى مثل روسيا التي أثبتت التجارب أنها شريك وفيّ يحترم السيادة الوطنية للدول.
تتيح هذه القاعدة لروسيا نشر 300 عسكري و أربعة سفن حربية، مع توفير دعم عسكريا للسودان يشمل تحديث الطائرات الحربية و المسيرات و تزويد الجيش بأسلحة نوعية وتقنيات استخباراتية حديثة. يُنظر إلى هذه الخطوة كإستراتيجية ضرورية في ظل الحرب المستمرة داخل السودان و التهديدات الإقليمية المتزايدة بجانب أنها تعزز جوانب أخرى في العلاقات الاقتصادية في مجالات البنية التحتية و القطاعات الإنتاجية الأخرى.
أصبح البحر الأحمر الذي يُعد من أهم الممرات البحرية الدولية ساحة تنافس بين القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية و روسيا. و بالنظر إلى موقع السودان الاستراتيجي فإن إقامة القاعدة الروسية لا تعني فقط تعزيز أمن السودان القومي بل تمنحه دورًا محوريًا في التوازنات الجيوسياسية بالمنطقة، علاوة على ذلك يمكن أن تسهم القاعدة في دعم الاستقرار الإقليمي من خلال مكافحة القرصنة و الإرهاب و هو ما يشكل تهديدًا مشتركًا للدول المطلة على هذا الممر الحيوي.
على صعيد آخر وقَّع السودان و إيران اتفاقًا لتعزيز التعاون الاقتصادي و الاستراتيجي بين البلدين. يتضمن الاتفاق الاستثمار في القطاعات الإنتاجية مثل الزراعة و الثروة الحيوانية، بالإضافة إلى تطوير قطاع التعدين وتعزيز التجارة البينية عبر أنظمة التبادل السلعي كما يركز التعاون على إعادة الإعمار و التعافي الاقتصادي في فترة ما بعد الحرب.
هذا الاتفاق يأتي في وقت يعاني فيه السودان من عزلة اقتصادية نتيجة العقوبات الغربية مما يجعله يبحث عن شراكات بديلة. و يبدو أن إيران تُقدم للسودان فرصة للتعافي الاقتصادي و تطوير بنيته التحتية في ظل التحديات الراهنة، حيث يتوقع لإيران أن تساهم في مشروعات للبنية التحتية و الاستثمار في القطاعات الإنتاجية و قطاع التعدين بجانب زيادة حجم التبادل التجاري و تعزيز التعاون المصرفي.
في ظل الضغوط الغربية المستمرة على السودان، بما في ذلك العقوبات و المطالبات بانتقال ديمقراطي يتماشى مع الرؤى الغربية يبدو أن الخرطوم تتبنى سياسة أكثر استقلالية. التعاون مع روسيا و إيران و الصين لا يُعد مجرد تحالفات مؤقتة، بل هو جزء من إستراتيجية طويلة الأمد سبق أن جربها السودان خلال فترات سابقة و استطاع عبرها من تجاوز تأثير العقوبات الأمريكية . عليه فان تجدد إحياء هذه العلاقات يهدف إلى كسر الهيمنة الغربية واستعادة زمام المبادرة في رسم مستقبل البلاد. بجانب أن السودان ينظر لبعض الدول الغربية و أخرى في محيطه الاقليمي أنها تسببت في إشعال الحرب بدعمها للتمرد و بعض القوي السياسية المتماهية معه.
أيضًا يجب الإشارة إلى الدور المتنامي لشراكته مع الصين، حيث ظلت العلاقات السودانية الصينية تمتد لعقود و تكتسب أهمية إضافية في المرحلة الحالية. بالنظر إلى قرب انتهاء الحرب يُمكن للصين أن تلعب دورًا محوريًا في إعادة إعمار البنية التحتية المتضررة.
من خلال “مبادرة الحزام و الطريق”، يُمكن للصين تقديم تمويلات ميسرة لمشاريع استراتيجية مثل الطرق و الجسور و محطات الطاقة، إضافة إلى تعزيز القطاعات الإنتاجية كالتعدين و الزراعة، علاوة على ذلك يُمكن أن تسهم الصين في نقل التكنولوجيا الحديثة و تطوير القدرات المحلية في مجالات التصنيع والطاقة المتجددة مما يُسهم في تحقيق تحول اقتصادي حقيقي أيضًا وقع السودان معها عدد من الاتفاقيات الاقتصادية.
بينما تمثل هذه الشراكات فرصة لتعزيز المصالح الوطنية ، تواجه السودان تحديات متزايدة من القوى الغربية التي ترى في تحركاته مع روسيا والصين تهديدًا لنفوذها ، لكن السودان يبدو متمسكًا بنهج سيادي يستند إلى تحقيق مصالحه بعيدًا عن الإملاءات الخارجية. حتى لو كان ذلك يعني الاصطدام بمصالح القوى الكبرى. القرارات الأخيرة بالتعاون مع روسيا و إيران تعكس سياسة جديدة قائمة على تحقيق المصالح الوطنية دون الاكتراث بالضغوط و هو توجه قد يعيد صياغة دور السودان الإقليمي و الدولي في المستقبل القريب.
من خلال قراءة هذه الشراكات المتنوعة، و بحسب ما نراه من وجه الحقيقة يتضح أن السودان يتبنى سياسة خارجية براغماتية قائمة على تحقيق مصالحه الوطنية و تعزيز أمنه القومي دون اكتراث بالضغوط الدولية. سواء في مجال الأمن القومي مع روسيا، أو التنمية الاقتصادية مع الصين و إيران، يبدو أن القيادة السودانية تسعى لتأمين مستقبل البلاد في ظل تحديات داخلية و خارجية غير مسبوقة. في نهاية المطاف يبقى السودان أمام فرصة تاريخية لبناء شراكات مستدامة تعزز سيادته و استقراره بعيدًا عن الإملاءات الغربية مع الاعتماد على التعاون المثمر مع شركاء يشاركونه رؤيته الاستراتيجية.
دمتم بخير و عافية.
السبت 15 فبراير 2025 م. Shglawi55@gmail.com