وجه الحقيقة … الصحة السودانية : تحديات تداعيات الحرب !.. بقلم/ إبراهيم شقلاوي

في زيارتنا أمس ضمن مجموعة من الإعلاميين لمستشفى (النو) التعليمي بمحلية كرري كان المشهد مثيرًا للقلق: مستشفى مكتظ بالمرضى، لم تعد المساحات كافية، فاضطرت الإدارة لإنشاء عنابر مؤقتة من الخيام لاستيعاب الأعداد المتزايدة. رغم وجود مستشفيين آخرين، (الوالدين) و (الجزيرة أسلانج)، اللذان يشهدان أيضًا ضغطًا هائلًا بسبب تدفق المرضي و المصابين، إلا أن مستشفى (النو) يظل الوحيد للمواطنين في المحلية المتأثرة بالقصف العشوائي من قبل مليشيا الدعم السريع.
رغم هذه الظروف، يواصل الكادر الطبي العمل إلى جانب المتطوعين، بذل جهود مضاعفة لتقديم العلاج والإنقاذ في ظل بنية تحتية مدمرة و نقص في الموارد. هذا المشهد يبرز التحديات الصحية الصعبة التي يواجها السودان حيث تعمدت المليشيا تدمير المؤسسات الصحية و العلاجية ما نتج عنه إنهيار شبه تام للقطاع.
هذه الزيارة جعلتنا نطرح تساؤلات حول الوضع الصحي في السودان، الذي يعاني من هذه الحرب التي دخلت عامها الثاني منذ أبريل 2023. تظهر الأوضاع الصحية كأحد أبرز أوجه الأزمة الإنسانية التي يعيشها السودانيون. إن التحديات الاستراتيجية التي تواجه وزارة الصحة تتطلب استجابة عاجلة من المجتمع الدولي و الإقليمي، ليس فقط لتقديم الدعم العاجل، بل أيضًا لإعادة بناء النظام الصحي و ضمان استدامة الخدمات في المستقبل.
بالرغم من هذه التحديات، نجحت وزارة الصحة بولاية الخرطوم في تحقيق إنجازات نوعية، مثل إعادة تأهيل 20 ماكينة غسيل كلى بعد تعرضها لتخريب الممنهج من قبل المليشيا. و أكد د. (فتح الرحمن محمد الأمين) مدير عام وزارة الصحة بالولاية أن هذا العمل يعكس إصرار العاملين على مواجهة المهددات و دعم استمرارية الخدمات الصحية في المناطق الآمنة ، و ذلك بالتوازي مع جهود القوات المسلحة لاستعادة الاستقرار. و تحولت الوزارة إلى خلية عمل مستمرة لصيانة المعدات الطبية التي تُستجلب من المناطق المحررة، حيث يتم صيانتها و اعادة تشغيلها لتلبية احتياجات المرضى، خصوصًا مرضى الفشل الكلوي الذين يعانون من نقص الرعاية الصحية.
قدرت وزارة الصحة خسائر القطاع المباشرة بنحو 11 مليار دولار، نتيجة تدمير المستشفيات العامة و الخاصة و نهب المعدات الطبية و الإمدادات الدوائية. و وفقًا لتقارير وزارة الصحة الاتحادية فإن 75% من المستشفيات إما دُمّرت كليًا أو تعمل بقدرات جزئية. هذا الوضع أدى إلى ارتفاع الضغط على المرافق الصحية بالمناطق الآمنة، التي تحاول جاهدة استيعاب الأعداد المتزايدة من النازحين و المرضى. في المناطق الخاضعة لسيطرة المليشيا حيث الوضع الصحي مأساوي.
العديد من المؤسسات الصحية إما دُمّرت أو تحولت إلى مراكز تخدم الميليشيا فقط، ما أدى إلى تفاقم معاناة السكان. و لجأت بعض المستشفيات إلى حلول طارئة، مثل إجراء العمليات الجراحية تحت أضواء الهواتف، كما حدث في الفاشر، ما يعكس حجم الأزمة الإنسانية. جاءت زيارة المدير العام لمنظمة الصحة العالمية إلى بورتسودان أواخر العام الماضي والتي سلطت الضوء على الاحتياجات الملحة للنظام الصحي. و حدث خلالها التزامات من المنظمة الدولية بإعادة تأهيل جانب من القطاع الصحي يحتاج الأمر للمتابعة للإيفاء بهذه التعهدات.
و الاستفادة من تجارب الدول التي أعادت بناء الكوادر و الأنظمة الصحية بعد الحروب. مثال ذلك دولة رواندا التي قدمت نموذجاً جيدًا في إعادة البناء من الصفر بعد الحرب التي خلفت نظامًا صحيًا منهارًا، اتبعت رواندا نهجًا قائمًا على التكامل بين الحكومة و المجتمع حيث ساهمت المجتمعات المحلية في إعادة تأهيل المرافق الصحية من خلال مبادرات مجتمعية مدعومة دوليًا.
كذلك في العراق تمت الاستفادة من التمويل الدولي لإعادة بناء البنيه التحتية الصحية، من خلال تضامن المجتمع مع الحكومة مع المنظمة الدولية، أيضًا في لبنان كان للقطاع الخاص دور بارز في تعويض نقص الخدمات العامة ، حيث أُعيد بناء العديد من المستشفيات من خلال شراكات بين القطاعين العام و الخاص، مع إشراف حكومي لضمان جودة الخدمات.
على غرار التجارب الدولية ، يمكن للمجتمع السوداني أن يكون شريكًا محوريًا في إعادة بناء القطاع الصحي عبر المبادرات المحلية التي يقودها القطاع الخاص بما يظهر قدرة المجتمعات السودانية على التكيف مع الواقع الجديد في اليوم التالي من الحرب . مع أهمية تبني استراتيجية سودانية لإعادة بناء النظام الصحي ، بالتركيز على الرعاية الصحية الأولية حيث تعاني المناطق الريفية في السودان من نقص الخدمات الصحية حتى قبل الحرب.
كذاك بالإمكان إنشاء شبكة وطنية متكاملة لإعادة توزيع المرافق الصحية بشكل عادل بين الولايات لتقليل الضغط على العاصمة الخرطوم. تضمن تكامل الخدمات بين المستشفيات الكبرى و مراكز الرعاية الأولية في الولايات بما يعزز الوصول العادل للخدمات الصحية.
كما يجب أن نعمل على ضمان استدامة الجهود، باعتماد آليات رقابية تضمن الشفافية في استخدام الموارد. كذلك من المهم أن نعمل علي بناء نظام طوارئ وطني للتعامل مع الأزمات الصحية و الكوارث، مع توفير مخزون استراتيجي من الأدوية و المعدات الطبية و تدريب فرق الاستجابة السريعة. أيضًا يحب أن نستفيد من الشراكات الإقليمية و الدولية.
كذلك يمكن توظيف العقوبات الدولية المفروضة على مليشيا الدعم السريع و شركاتها المجمدة لإنشاء صندوق وطني لدعم إعادة الإعمار و تعويض الضحايا. إن مستقبل القطاع الصحي السوداني يكمن في تبني استراتيجيات جادة لإعادة البناء ، من خلال إنشاء آليات وطنية و دولية للتمويل لضمان وصول الموارد إلى المناطق الأكثر تضررًا.
عليه و بحسب ما نراه من وجه الحقيقة فإن إعادة تأهيل القطاع الصحي في السودان يتطلب رؤية استراتيجية طويلة الأمد تُوازن بين الاستجابة السريعة للأزمات و التخطيط المستدام لبناء نظام صحي فعال اعتمادًا على دور المجتمع و المنظمات الإقليمية والدولية والقطاع الخاص، كذلك من المهم توفر الإرادة الوطنية التي تضع الصحة العامة كأولوية وطنية و تجعلها جسرًا نحو السلام و التنمية المستدامة.
دمتم بخير و عافية.
الأربعاء 15 يناير 2025م Shglawi55@gmail.com