وجه الحقيقة .. القصة الكاملة لاقتراب الجيش من تحرير القصر .. بقلم/ إبراهيم شقلاوي

تشهد العمليات العسكرية في العاصمة الخرطوم تطورًا لافتًا مع اقتراب الجيش من حسم معركة القصر الجمهوري، الذي يمثل رمزية الدولة السودانية و مركز ثقل سيادتها السياسية. هذا التقدم لم يكن وليد حركة عسكرية مفاجئة، بل هو نتاج لعملية استراتيجية ممنهجة اتسمت بالدقة و التدرج، حيث تبنت قيادة القوات المسلحة السودانية خطة حصار محكمة، ارتكزت على ما يمكن وصفه باستراتيجية الكماشة، التي ضيقت الخناق على مليشيا الدعم السريع من مختلف الاتجاهات، ميدانيًا و نفسيًا، فقطعت عنها الإمداد فانهكت قدرتها على الصمود و المناورة.
في نهاية سبتمبر 2024، بدأت القوات المسلحة تنفيذ عملية هجومية متدرجة، اعتمدت على تطويق العدو عبر محاور متعددة، مستخدمة جسور العاصمة كخطوط عبور رئيسية لنقل المعركة إلى قلب الخرطوم. العبور من جسر الحلفايا مكن قوات الجيش القادمة من كرري و من حطاب من فك الحصار عن بحري و تأمين سلاح الإشارة، فيما مثلت سيطرة قوات المهندسين و المدرعات على جسر الإنقاذ نقطة ارتكاز مهمة للتحرك نحو المقرن، مما منح الجيش موطئ قدم استراتيجي داخل الخرطوم. و على ذات الإيقاع، عبرت قوات الجيش القادمة من النيل الأبيض باتجاه جبل أولياء، مستكملة إغلاق الطوق حول المليشيا المتحصنة في قاعدة (النجومي) و (الصالحة).
تطورات العمليات أخذت زخمًا متصاعدًا منذ فجر السادس و العشرين من سبتمبر، حين نفذت القوات المسلحة عملية متزامنة عُرفت بمعركة العبور، تمكنت خلالها من اختراق الدفاعات و تثبيت سيطرتها في بحري و الخرطوم على حد سواء، و هو ما أربك حسابات مليشيا الدعم السريع و أفقدها تماسك خطوطها. بحلول الرابع و العشرين من يناير 2025، كان الجيش قد أحكم سيطرته على بحري، و حرر مصفاة الجيلي للبترول و فك الحصار عن سلاح الإشارة و القيادة العامة للجيش بالكامل، ما مهد لمرحلة الحسم التي أعلن عن بدايتها رئيس هيئة الأركان الفريق أول محمد عثمان الحسين، مشددًا حينها أن ما تحقق من انتصارات ليس سوى نقطة الانطلاق نحو المرحلة الأهم والتي سماها بكسر العظم.
و مع توالي العمليات، كان لافتًا التقدم المضطرد للقوات المسلحة نحو مواقع حيوية داخل الخرطوم، حيث تم استرداد مناطق استراتيجية مثل أبراج الرواد و ميدان (جاكسون) و موقف (شروني) ، نادي الأسرة حتي شارع (كاترينا) شرقاً و رئاسة شرطة المطافئ، فيما مثل استعادة أبراج النيلين و كبري (المسلمية) مؤشرًا على تفكك الحصار المفروض من المليشيا حول قلب العاصمة. جاءت هذه التحركات متزامنة مع ما وصفه القائد العام للجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان بـ(شرك أم زيردو)، و هي عملية محكمة حاصرت العدو من أربعة اتجاهات، عبر تحرك القوات من حطاب، كرري و المقرن وسوبا وصولًا إلى تطويق المليشيا في آخر معاقلها بجنوب الخرطوم و شرق النيل التي خرجت منها المليشيا تجرجر أذيال الهزيمة.
تقدم الجيش بلغ ذروته حين وصلت القوات إلى محيط القصر الجمهوري، بعد أن أحكمت سيطرتها على شارع النيل و جسر المك نمر، و وضعت يدها على كل المداخل و المخارج المؤدية للقصر، مما جعل القوات المتحصنة داخله معزولة تمامًا عن أي دعم خارجي. ومن جهة أخرى، قطع الجيش طرق الإمداد القادمة من العيلفون وسوبا بتأمين جسر المنشية، حيث باتت فلول المليشيا تحت كماشة أربع جيوش، الأمر الذي جعل انهيار قدراتها القتالية أمرًا محتمًا.
منذ الأمس شهدت اشتداد المعارك في محيط القصر، وبدء عمليات نوعية على مستوى المسافة صفر، حيث نفذت القوات المسلحة عمليات اقتحام دقيقة، مستغلة التفوق الجوي و المدفعي، و القوات الخاصة مما أضعف خطوط الدفاع الأخيرة للمليشيا و أجبرها على الانسحاب جنوبًا نحو جبل أولياء. ومع استمرار هذا التقدم، أصبح إعلان تحرير القصر الجمهوري مسألة وقت، إذ أن الانهيار الكامل لمليشيا الدعم السريع في قلب الخرطوم بات وشيكًا، ويُتوقع أن يعقب ذلك استعادة السيطرة على الوزارات السيادية و المؤسسات الحيوية تباعًا.
القراءة السياسية لهذا التقدم الميداني تبرز أن ما تحقق لا يمثل مجرد نصر عسكري تقليدي، بل يعكس أيضًا صمودًا مؤسسيًا لدولة تسعى لاستعادة هيبتها و سيادتها في مواجهة محاولة فرض أمر واقع بالقوة عبر انقلاب مدعوم إقليمياً و دولياً لاختطاف البلاد. الجيش السوداني بما يحمله من عقيدة وطنية راسخة، جسّد خلال هذه المعركة إرادة شعبه، متحركًا بثبات نحو تثبيت الاستقرار و إغلاق صفحة الفوضى التي حاولت مليشيا الدعم السريع تكريسها.
بإعلان الناطق الرسمي باسم القوات المسلحة، العميد ركن نبيل عبد الله، أمس عن التحام فرسان المدرعات بأبطال الصمود في محيط القيادة العامة بعد تطهير مستشفى الشعب التعليمي من مليشيا الدعم السريع. هذا الحدث يمثل أكثر من مجرد تطور ميداني؛ فهو شهادة يثبت بها الجيش أن النصر ليس مجرد عمليات حربية، بل هو استعادة للكرامة و السيادة الوطنية التي حاولت المليشيا و داعميها المحليين و الإقليميين العبث بها. إن رسالته اليوم هي أن الجيش السوداني، بعزمه الراسخ وإيمانه القوي، يقترب من لحظة تاريخية ستفتح الباب لمرحلة جديدة من الاستقرار، عنوانها السيادة الوطنية والكرامة والأمن لهذا الشعب.. هذا ما يبدو عليه الواقع علي الأرض. إنه وجه الحقيقية .
دمتم بخير وعافية.
الثلاثاء 18 مارس 2025 م Shglawi55@gmail.com