
مع اقتراب الجيش السوداني من استرداد القصر الجمهوري في وسط الخرطوم و الذي تسيطر عليه مليشيا الدعم السريع منذ بداية الحرب في منتصف أبريل 2023، تتقدم قوات الجيش باتجاهه من عدة محاور بعد أن استردت عددًا من المواقع العسكرية و فكت الحصار عن القيادة و سلاح الإشارة. يصبح الحدث أكبر من مجرد انتصار عسكري، إذ يتجاوز أبعاده الميدانية إلى إعادة ترتيب السلطة في السودان. فالقصر الجمهوري كرمز سيادي لم يكن مجرد موقع استراتيجي، بل كان نقطة ارتكاز انطلقت منها الحرب نفسها التي بدأت بانقلاب للاستيلاء على السلطة بدعم إقليمي و إسناد من بعض القوى السياسية الداخلية. و مع اقتراب الجيش من بسط سيطرته الكاملة عليه، يبرز التساؤل حول التداعيات السياسية و العسكرية لهذا التطور، هل يمثل ذلك نقطة تحول في إدارة الدولة أم أنه مقدمة لصراع جديد على السلطة في مرحلة ما بعد الحرب؟ في هذا المقال نناقش عددًا من الأفكار حول الموضوع بالنظر إلى من يملك قرار تحرير القصر هل هي السياسة أم القدرات العسكرية.
في ظل هذا المشهد المعقد ، لا يمكن التعامل مع تحرير القصر باعتباره مجرد محطة عسكرية من محطات الحرب، بل هو لحظة فارقة في مسار السودان تعكس تحولات أعمق في موازين القوى بين المؤسسة العسكرية و تفاعلات الأحزاب السياسية. كما أن تحرير القصر يفرض على الجيش والقوى السياسية اتخاذ قرارات حاسمة حول إدارة المرحلة المقبلة ، وهو ما سيحدد طبيعة الدولة السودانية في اليوم التالي .
منذ إنشائه في القرن التاسع عشر إبان الحكم التركي-المصري، ظل القصر الجمهوري أحد أهم رموز السلطة السياسية في السودان . كان في البداية مقرًا للحاكم العام خلال الاستعمار البريطاني ، لكنه بعد الاستقلال عام 1956 تحول إلى القلب السياسي للدولة السودانية ، حيث شهد إعلان الاستقلال و تعاقب الرؤساء. لعب دورًا محوريًا في تشكيل المشهد السياسي، إذ كان مسرحًا للأحداث الكبرى، من الانقلابات العسكرية إلى الفترات الانتقالية و محاولات بناء الدولة السودانية.
لم تقتصر رمزية القصر على كونه مقر الحكم، بل عكست دائمًا توازنات القوى داخل الدولة، فكل من سيطر عليه كان يُنظر إليه باعتباره صاحب الشرعية السياسية ، سواء في فترات الحكم العسكري أو الديمقراطي. و بالتالي، فإن تحرير القصر اليوم ليس مجرد استعادة لموقع استراتيجي ، بل هو استعادة للشرعية الوطنية.
تكشف التحركات العسكرية الأخيرة للجيش عن استراتيجية واضحة تهدف إلى استعادة السيطرة على المراكز السيادية في البلاد، ليس فقط لتأمين النصر الميداني، و لكن أيضًا لإعادة تثبيت الدولة كمؤسسة قادرة على فرض هيبتها. غير أن هذا التقدم لا ينفصل عن تحديات أعمق تتعلق بإعادة هندسة المشهد السياسي بعد الحرب، خصوصًا في ظل تباين الرؤى بين المكون العسكري و الأحزاب السياسية حول مستقبل السلطة.
بناءً على ذلك، يمكن نقاش الفكرة وفقًا لثلاثة سيناريوهات، الأول هو إعادة تشكيل دور الجيش ضمن النظام السياسي، فمنذ بداية الحرب برز الجيش السوداني كمؤسسة وطنية تواجه تحديًا وجوديًا أمام مشروع تفكيك الدولة. و مع استعادة السيطرة سيكون على المؤسسة العسكرية حسم موقفها من دورها المستقبلي، فهل ستكتفي بتأمين الدولة من التهديدات أم ستسعى لتثبيت دورها كفاعل سياسي رئيسي؟ هذا السؤال تفرضه التجارب السابقة ، حيث يعتبر أغلب السودانيين أن السلام واستعادة الأمن أصبحا على رأس الأولويات ، لذلك لا يمانعون في استمرار الجيش في حكم البلاد وبسط الأمن ، بمعاونة حكومة من الكفاءات الوطنية غير الحزبية إلى حين إقامة انتخابات تشريعية تتيح للأحزاب الانتقال بالبلاد إلى الحكم المدني.
وفي ذلك تظل تجربة المشير سوار الذهب شاخصة، إذ تُعتبر من أنجح تجارب انتقال السلطة إلى المدنيين، حيث استلم السلطة باسم الجيش في انتفاضة أبريل 1985،بصفته القائد الأعلى، و نسّق مع قادة الأحزاب و النقابات، ثم سلمها عبر انتخابات في العام 1986.
الثاني يتمثل في معادلة القوى بين الفصائل العسكرية و السياسية، فاستعادة القصر الرئاسي تطرح سؤالًا حيويًا حول الفاعلين الذين سيظهرون في المشهد الجديد. فالجيش ليس وحده في المعادلة، إذ أن المجموعات المسلحة المساندة له قد تطالب بنصيب في السلطة. فكيف سيتم التعامل مع هذه القوى؟ هل سيتم دمجها ضمن مؤسسة الدولة أم ستنشأ أزمة نفوذ جديدة قد تعيد إنتاج حالة عدم الاستقرار؟ تجارب دول مثل العراق و ليبيا أظهرت أن غياب رؤية واضحة لإدارة مرحلة ما بعد الحرب يؤدي إلى تفكك السلطة حيث تتحول الفصائل المنتصرة إلى مراكز قوى متنافسة تعرقل عملية بناء الدولة. و السودان ليس بعيدًا عن هذا السيناريو إذا لم يتم وضع ترتيبات انتقالية واضحة. لكن و بحسب تصريحات القوى المساندة للجيش مثل التيار الإسلامي و حركات سلام جوبا، فإن جميعهم متفقون، وفقًا للتصريحات الصادرة من قياداتهم العليا على المضي قُدمًا وفق ترتيبات انتقالية يديرها الجيش إلى حين الانتخابات التي يمكن الاتفاق على موعدها عبر آليات مشتركة.
الثالث و هو الأضعف يتمثل في محاولة بعض القوى السياسية المتحالفة مع التمرد، بالاستعانة بالأجنبي للضغط لإعادة تعريف الشرعية السياسية، و عرقلة أي ترتيبات سياسية تنشأ بمعزل عنها، مما يعيد البلاد إلى مربع الأزمة قبل الحرب. يجب أن نأخذ في الاعتبار أن بعض القوى الإقليمية و الدولية اعتمدت على مليشيا الدعم السريع و داعميها المحليين كأداة لإعادة هندسة المشهد السياسي في السودان، عبر مشروع يستهدف تفكيك السلطة المركزية و إعادة توزيع النفوذ. لكن تحرير القصر المحتمل، و ما سبقه من انتصارات عسكرية كبرى يُعد مؤشرًا على انهيار هذا المشروع، مما سيدفع تلك القوى إلى إعادة حساباتها أو ربما عرقة أي انتقال وطني توافي بين القوي السياسية الوطنية و الجيش.
مع تغير موازين القوى في السودان، برز تيار الإسلاميين كفاعل رئيسي، مستندًا إلى دعمه المطلق للجيش و تفاعله مع المزاج الشعبي. هذا التحول يفرض واقعًا جديدًا على السياسة الخارجية السودانية، حيث ستكون الخرطوم أمام ضرورة إعادة صياغة علاقاتها مع المجتمع الدولي بصورة أكثر براغماتية، فالسودان ما بعد الحرب لن يكون امتدادًا لسابقه، بل سيكون أمام خيارات صعبة قد تتراوح بين بناء تحالفات جديدة أو التكيف مع التوجهات الدولية في المنطقة ، لا سيما في ظل سياسة الإدارة الأمريكية الجديدة التي تميل إلى خفض التوترات و تسوية الحروب.
لذلك إعادة هندسة المشهد السياسي بعد تحرير القصر الجمهوري يتطلب رؤية تتجاوز منطق الغلبة العسكرية أو السياسية إلى مشروع وطني جامع لكل أهل السودان يعيد صياغة العلاقة بين السلطة و الدولة، ويؤسس لشرعية تقوم على الاستقرار و التوافق الوطني، فالسؤال الجوهري اليوم ليس كيف يُحرَّر القصر ،بقرار سياسي أم عسكري، بل كيف يمكن لهذا التحرير أن يكون نقطة تحول حقيقية في تاريخ السودانيين. لذا، من المهم تحويل هذا الحدث إلى تأسيس دولة مستقرة و قوية، بحيث يتحول هذا النصر إلى بناء دولة متماسكة، بعيدًا عن الصراعات الصفرية حتى لا نعيد إنتاج الأزمات السابقة التي أدخلت البلاد في الحرب. و هذا وجه الحقيقة.
دمتم بخير و عافية.
الثلاثاء 4 فبراير 2025 م. Shglawi55@gmail.com