
مسألة تفويض الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان لإدارة شؤون السودان في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ البلاد قضية تثير نقاشًا سياسيًا واسعًا هذه الأيام. يقف هذا التفويض كخيار يراه البعض ضرورة لتحقيق وحدة البلاد، و رتق النسيج الاجتماعي الذي تمزق بفعل الصراعات السياسية و العسكرية. و لكن هل يمكن لمثل هذا الخيار أن يقدم حلاً مستدامًا في هذه المرحلة التي أصبحت فيها أولويات السودانين لتثبيت دعائم الأمن و الاستقرار دعونا نناقش هذه الأفكار للإجابة على سؤال جدلية التفويض بالنظر إلى واقع الأحزاب السياسية السودانية و التجارب الاقليمية و الدولية.
خطاب البرهان بالأمس في أم درمان، حمل رسائل متعددة تعكس واقعاً سياسياً متشابكاً، يختلط فيه البعد العسكري بالمدني، و الطموحات الوطنية بالتحديات المتراكمة. أكد فيه على الشراكة مع كل من وقف إلى جانب القوات المسلحة في “معركة الكرامة” و أشار إلى ضرورة إبعاد القوى التي حملت السلاح ضد الدولة عن المشهد السياسي . هذا الموقف يفتح باب النقاش حول الدور الذي يمكن أن تلعبه المؤسسة العسكرية في السودان وسط تعثر الأحزاب السياسية و تدهور الأوضاع الأمنية.
عند دراسة الفلسفة السياسية يبرز مفهوم الحكم المدني كإطار يتيح إدارة شؤون المجتمع عبر التعددية الحزبية والمنافسة بين الأفكار الإصلاحية . ومع ذلك فإن التجربة السودانية أظهرت عجز الأحزاب عن استثمار هذا الإطار بشكل يحقق الاستقرار والتنمية . لقد اتسمت تجربة الأحزاب السياسية السودانية في أغلبها بعدم امتلاك برامج ورؤى واضحة ، بالإضافة للخلافات الداخلية التي جعلتها عرضة للانقسامات بجانب الصراعات الصفرية والارتهان للخارج ما دفع البلاد إلى أزمات مركبة انتهت بحرب شاملة .هذا الوضع يدفع الجيش إلى التدخل ليس فقط كحامٍ للأمن القومي و لكن كفاعل سياسي يسعى لإعادة ترتيب المشهد.
و مع ذلك فإن هذا التدخل لا يأتِ من فراغ؛ إذ أن الأحزاب بفشلها المتكرر مهدت الطريق لتقدم المؤسسة العسكرية كبديل .بالمقابل يرى أنصار تفويض البرهان أن المؤسسة العسكرية تملك الصفة القومية بجانب التنظيم والانضباط ما يمكنها من حفظ وحدة البلاد و بسط الأمن في هذه المرحلة. و في هذا السياق يُطرح تساؤلًا مشروعًا؛ هل يمكن للجيش أن يلعب دورًا مرحليًا دون أن يتحول إلى سلطة مستدامة تعيق التحول الديمقراطي لاحقًا؟ التاريخ السياسي السوداني حافل بتجارب شهدت تدخل العسكر لإنقاذ البلاد من الفوضى، لكن النتائج غالباً ما كانت مثار جدل كبير . ومع ذلك فإن تجربة الحرب الحالية أكدت أهمية وجود مؤسسة عسكرية قادرة على الحفاظ على وحدة البلاد.
لذلك فالنقاش حول دور المؤسسة العسكرية ليس مقتصراً على السودان؛ فالتاريخ الحديث مليء بنماذج لقيادات عسكرية ساهمت في بناء دول مستقرة، مثل شارل ديغول في فرنسا و آيزنهاور في الولايات المتحدة . هناك أيضاً تجارب أخرى انتهت إلى عسكرة الدولة و إضعاف الحياة المدنية. في الحالة السودانية يبدو أن المؤسسة العسكرية تجد نفسها مضطرة للعب دورر مزدوج؛ حماية البلاد من الانهيار الأمني و في الوقت نفسه إدارة شؤون الدولة السياسية.
في ظل هذا الجدل تبرز تجارب إقليمية ودولية يمكن الاستفادة منها . التجربة التركية عام 1980 تقدم نموذجًا حيث تدخل الجيش عقب اضطرابات سياسية و أمنية، ثم أدار المرحلة الانتقالية بشكل مباشر مع تنظيم استفتاء على دستور جديد، وعادت السلطة تدريجيًا إلى المدنيين عبر انتخابات. كذلك التجربة التايلاندية عام 2014 أظهرت دور الجيش في إدارة مرحلة انتقالية عقب اضطرابات مشابهة ، حيث وضعت خارطة طريق تضمنت إصلاحات سياسية وانتخابات لاحقة . لكن هذه التجارب تُظهر أيضًا أن نجاح مثل هذه التدخلات يعتمد على وجود رؤية واضحة و التزام بتسليم السلطة في الوقت المناسب.
بالعودة للسودان فإن تفويض المؤسسة العسكرية يتطلب شروطًا دقيقة تضمن عدم تحول هذا الخيار إلى حكم عسكري طويل الأمد. لذلك من المهم أن يتم هذا التفويض عبر استفتاء شعبي مباشر بمشاركة واسعة من خلال الآليات الوطنية التي يمكن من خلالها تحقيق توافق حقيقي حول مستقبل البلاد.
خطاب البرهان الأخير أشار بوضوح إلى رغبة المؤسسة العسكرية في تمهيد الطريق لنظام ديمقراطي . هذا الالتزام يحتاج إلى ترجمة عملية من خلال خارطة طريق واضحة تضمن خروج المؤسسة العسكرية من المشهد السياسي في نهاية الفترة الانتقالية. على الصعيد الدولي فإن الدعم الشعبي لقيادة المرحلة الانتقالية يمكن أن يكون عاملًا حاسمًا لمواجهة أي ضغوط أو ابتزاز خارجي إذا ما بُني على شرعية شعبية صادقة تمثل إرادة السودانيين.
إن التوازن بين المدني و العسكري في السودان يتطلب إعادة النظر في أسس العلاقة بين الجيش و الأحزاب الوطنية المطلوب هو صياغة ميثاق وطني يُحدّد دور كل طرف و يضمن انتقالًا سلسًا نحو دولة مدنية ديمقراطية تحترم إرادة الشعب.
التفويض الذي يمكن التوافق عليه و الذي يمثل رغبة السواد الأعظم من السودانيين جراء حرصهم على استعادة الأمن و تحقيق السلام يجب أن يتم وفقا لآليات وطنية عبر استفتاء شعبي مباشر، بمشاركة كافة شرائح المجتمع السوداني في عملية التصويت، بما في ذلك النازحين و اللاجئين، لضمان تمثيل حقيقي لجميع السودانيين. مع وضع قيود زمنية حتي لا يتحول إلى حكم طويل الأمد . مع وضع خارطة طريق بأهداف وطنية محددة يتم انجازها خلال الفترة.
عليه وبحسب ما نراه من وجه الحقيقة فإن السودان يواجه لحظة مفصلية تتطلب قيادة قوية قادرة على تجاوز الانقسامات ،إذا شعر السودانيون بأن هذه القيادة تمثل إرادتهم و تسعى لتحقيق أهدافهم، فإن الدعم الشعبي سيمثل خط الدفاع الأول ضد أي ابتزاز إقليمي أو دولي كما أنه يقفل باب المزايدة علي الشرعية لذلك يتطلب الأمر وضع إستراتيجية شاملة تستند إلى آليات التفويض الشعبي و السيادة الوطنية. هذا وحده يقفل باب جدلية ترشيح البرهان لرئاسة البلاد.
دمتم بخير و عافية.
الجمعة 14 فبراير 2025 م. Shglawi55@gmail.com