
في المشهد السياسي السوداني تتداخل مراحل الصراع مع لحظات التوافق و تشكل لوحة معقدة من التحديات المتشابكة. الفكر الإسلامي السياسي في السودان كما تعكسه الحركة الإسلامية يتميز بنظرة شمولية تسعى لدمج الدين و السياسة في إطار تحقيق المصلحة العامة. في هذا السياق يبرز حزب المؤتمر الوطني كفاعل رئيسي يحاول استعادة دوره عبر طرح استراتيجيات جديدة تتجاوز الجمود الفكري و تتناسب مع التحولات الراهنة، هذا الطرح يهدف إلى معالجة الأزمة السودانية من خلال مصالحة وطنية شاملة لا تقتصر على إنهاء الخلافات السياسية بل تمتد إلى بناء مشروع قومي يستند إلى رؤية مستقبلية تضمن وحدة البلاد و استقرارها.
في هذا المقال نحاول نقاش ذلك انطلاقاً من حديث د.(أمين حسن عمر) الذي جاء في برنامج بودكاست الأسبوع الماضي مع (الطاهر التوم). طرح أمين أحد أبرز القيادات الإسلامية رؤية جديدة للتنظيم السياسي لحزب المؤتمر الوطني في ظل التحديات الراهنة، و أشار إلى ضرورة التخلي عن النموذج الحزبي التقليدي القائم على البنية الهرمية المغلقة، داعياً إلى اعتماد نموذج “الشبكات التنظيمية المرنة”. وفق هذا الطرح تصبح الهياكل التنظيمية أكثر ديناميكية و تفاعلاً مع التحولات السياسية و الاجتماعية مما يعزز قدرة الحزب على التكيف مع المستجدات و صعوبة استهدافه من قبل خصومه.
رؤية أمين تعكس استيعاباً عميقاً للحاجة إلى تجاوز الجمود الذي عانت منه الأحزاب التقليدية، و فتح آفاق جديدة للتكتل السياسي القائم على التكامل الأفقي بدلاً من التبعية العمودية. هذا النهج الجديد الذي وصفه بـ”كفاءة التكيّف” يعكس قدرة الحزب على الاستفادة من التجارب السابقة و تحويلها إلى أدوات لإعادة بناء الثقة الشعبية و التنظيمية. في هذا السياق و من خلال التجارب أثبت الإسلاميون قدرتهم على المناورة السياسية و بناء التحالفات مع مختلف القوى لتحقيق أهداف استراتيجية. تجربة حزب المؤتمر الوطني مع الحركة الشعبية لتحرير السودان و التي أفضت إلى اتفاق السلام الشامل في 2005 تُعد مثالاً حيّاً على قدرة الحزب على تجاوز الخلافات الأيديولوجية و التفاوض على تسويات سياسية مع خصومه. هذه التجربة رغم نتائجها المتباينة، أظهرت إمكانات الإسلاميين في بناء توافقات وطنية عند توافر الإرادة السياسية، كما برزت مرونة الحزب في التعامل مع القوى الإقليمية و الدولية مما أكسبه دعماً سياسياً خلال فترات حساسة.
و مع ذلك فإن إعادة استثمار هذه التجارب بنجاح في المرحلة الحالية تتطلب معالجة أخطاء الماضي، خاصة تلك المتعلقة بالهيمنة الآحادية و ضعف إشراك القوى الأخرى و الذي سبق أن أشار له الإسلاميون خلال اجتماعاتهم التي تم تسريبها عبرة قناة العربية أنهم يعدون العدة للحكم ببرنامجهم و ليس بأشخاصهم، لكن كما يبدو فقد داهمتهم الثورة في العام 2019 و قطعت عليهم احتمالية تطوير التجربة مستفيدين من ثلاثين عاماً في الحكم. لذلك من الواضح أن الإسلامين ربما أكملوا مراجعاتهم و بدأوا في رسم طريق جديد نحو مشروع قومي جامع يتطلب توجيه استراتيجيتهم نحو بناء تحالفات وطنية عريضة تتجاوز المصالح الحزبية الضيقة، ذلك يتوافق مع المرحلة الراهنة التي تعيشها البلاد، بجانب التحولات الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط التي بدأت فيها مرحلة جديدة من التعامل مع الإسلام السياسي التوافقي كما هو الحال في التجربة السورية الحالية.
لذلك إذا تحدثنا عن تحالفات يجب أن تقوم على مشروع قومي مُتّفَق عليه، يركز على القضايا الأساسية مثل العدالة الاجتماعية، التنمية الاقتصادية المتوازنة و إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس من الكفاءة و الشفافية، بمعني ينبغي أن ترتكز على رؤية استراتيجية طويلة الأمد تعزز الوحدة الوطنية و تواجه التحديات الإقليمية و الدولية. هذا يجعل هناك فرص جيدة للإسلاميين استناداً إلى تاريخهم الطويل في امتلاكهم القدرة للعودة إلى قلب المشهد السياسي شريطة تبنّي سياسات أكثر مرونة و توجهات أكثر انفتاحاً و استيعاباً للمتغيرات المحيطة.
لذلك و حتي تنجح هذه الأفكار التي قال بها أحد منظري الحزب (أمين عمر) لا بد فعلاً من التجديد التنظيمي بالاعتماد على الهياكل الشبكية التي تعزز المشاركة وت قلل من المركزية، و بذلك يمكن أن تكون هناك حركة مجتمع تجاه قبول طرح الحركة و ليس حركة نخب. كذلك من المهم تجديد الخطاب السياسي بتبني خطاب وطني جامع يتجاوز الأيديولوجيات الضيقة و يركز على المصالح الوطنية، بجانب الانفتاح على التحالفات و التشبيك بإشراك القوى المعارضة في مشروع سياسي شامل يعالج القضايا الجوهرية مثل الهوية الوطنية و التنمية المستدامة و هذا يستوجب إيجاد مقاربة مع خصومهم علي قاعدة الوطن و حماية المصالح القومية.
و مع ذلك أتوقع أن يواجه هذا الطرح تحديات كبيرة أولها: وحدة القيادة داخل الحزب المتنازع عليها، ثانياً: كسب ثقة القاعدة الإسلامية الملتزمة المبعثرة بين ذكريات الماضي و واقعية الحاضر. ثالثاً: تعزيز الثقة الشعبية إذ ليس كافيا نجاح الاسلامين في الانحياز للجيش ونصرة السودانيين في حرب الكرامة بل لا بد من قيادة خطابا وطنيا جامعا بعيدا عن الصراعات الصفرية و إقصاء الخصوم، هذا بدوره سوف يقود إلى تغيرات كبيرة في البيئة السياسية و الاجتماعية و ربما يفلح في تجاوز التوتر السياسي بين الأحزاب كما أنه سوف يجد قبولاً في المحيط الإقليمي الذي يحرص علي خفض التوتر و الصراعات في هذه المرحلة.
عليه تظل المصالحة خطوة مهمة لإنهاء كافة الصراعات بما فيها الصراعات المسلحة، ذلك مؤكد سيقودنا إلى عملية شاملة تتطلب إعادة بناء العقد الاجتماعي على أسس جديدة. تعكس التطلعات الشعبية لتحقيق العدالة ، مع التركيز على تجاوز المظالم التاريخية و إعادة توزيع السلطة و الثروة. لذلك يظل الإسلاميون طرفاً مؤثراً في السياسة السودانية و يمتلكون فرصة جيدة لتبني مشروع مصالحة حقيقي يشمل الجميع و لكن ذلك يتطلب منهم الانتقال إلى سياسات أكثر براغماتية ترتكز على المصلحة الوطنية.
عليه و بحسب ما نراه من وجه الحقيقة فإن نجاح الإسلاميين في إعادة تنظيم صفوفهم و الوصول إلى تحالفات وطنية واسعة سيحدد بشكل كبير مستقبل السودان السياسي في ظل التحولات الراهنة التي تضعهم أمام مسؤولية تاريخية ، تستند إلى مشروع قومي يعكس التنوع السياسي و الاجتماعي في السودان. إذا استطاع الإسلاميون تجاوز أخطاء الماضي و اعتماد استراتيجيات قائمة على الشمول و المرونة فإنهم قادرون على لعب دور محوري في تحقيق الاستقرار السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي بما يمكن من إستعادة الأمن و السلام و الاستقرار للسودانيين.
دمتم بخير و عافية.
الخميس 2 يناير 2025م Shglawi55@gmail.com