
“هل فعلاً ستنتهي الحرب في مارس القادم ، كما أعلن الجنرال مالك عقار نائب رئيس مجلس السيادة؟”
سؤال بسيط، لكنه يحمل بين طياته تعقيد المشهد السوداني. عندما طرحه عليَّ أحد الأصدقاء، كان يستمد صدقه من واقع سوداني أنهكته الحرب و حلمٍ عالق بالسلام المنتظر. إجابتي له و التي أشارككم إياها هنا، لم تكن سوى انعكاس لحقيقة واضحة: الحرب لن تنتهي بتصريحات سياسية أو توقعات إعلامية، بل بقرارات حاسمة تُرسم في الميدان، لذلك تصريح مالك عقار فتح الباب أمام تساؤلات عديدة حول مدى واقعية هذا السيناريو و مدى ارتباطه بالمعطيات العسكرية على الأرض، حيث يعتمد الجيش السوداني بشكل واضح على الحسم العسكري. الذي يكمن في فك الحصار عن سلاح الإشارة و قيادة الجيش لإعادة السيطرة الكاملة على البلاد حيث يشكل هذا الحصار تحدياً مباشراً حول تنسيق العمليات و إدارة المعارك أو حتي للذهاب في تفاوض.
مع ذلك، فإن إنهاء الحرب لا يرتبط فقط بالتفوق العسكري، بل بتوافر إرادة سياسية لإعادة صياغة المشهد الوطني. في ظل غياب توافق سياسي شامل و استمرار التدخلات الإقليمية و الدولية، تبدو التصريحات التفاؤلية أقرب إلى رسائل تكتيكية منها إلى مؤشرات على واقعٍ مُرتقب، من غير المتوقع ، بل و من غير المنطقي أن يلجأ الجيش إلى التفاوض قبل فك الحصار عن هذين المعقلين الاستراتيجيين. الحصار المفروض منذ بداية المعارك بات يشكل عقبة رمزية و عملية مما يعزز ضرورة تحقيق اختراق ميداني يمهد الطريق لإنهاء الحرب.
لذلك علينا أن نعلم في أدبيات الجيوش هناك حدود لا يمكن التنازل عنها ، وقيم لا تخضع للمساومة ، وعلى رأسها رمزية المقار العسكرية . هذه المواقع ليست مجرد منشآت عسكرية، بل هي عنوان لسيادة الدولة وهيبة الجيش. من هنا ، يصبح فك الحصار المفروض على هذه النقاط مسألة وجودية للجيش السوداني . لذلك الحرب التي بدأت بحصار القيادة العامة، يبدو أنها تسير نحو نهايتها بالمسار نفسه؛ عبر فك الحصار و استعادة السيطرة الكاملة على العاصمة الخرطوم ما يضيف بعداً كبير لهذه المعركة هو أن القيادة العامة بما تحمله من رمزية باتت نقطة اختبار لصمود الجيش و إصراره على إنهاء التمرد بشروطه الخاصة بعيداً عن الضغوط الدولية.
عليه فإن العمليات العسكرية التي ينفذها الجيش في بحري وشمبات تحمل دلالات استراتيجية كبيرة. التحول نحو تكتيكات أكثر مرونة تعتمد على المشاة المدعومة بالمسيرات و الضربات الاستباقية لإمداد العدو و تحييد القيادات و القدرات و منظومة الاتصالات، يظهر وعياً عسكرياً بالتعامل مع طبيعة القتال في حرب المدن. انسحاب المليشيا من مواقع استراتيجية ، مثل شارع المعونة والختمية ، ليس فقط انتصاراً ميدانياً بل مؤشر على تراجع قدرتها على الصمود أمام ضربات الجيش المتتالية.
هذه الانسحابات، مقترنة بالتقدم الواضح في محاور عدة، خاصة باتجاه معسكر سلاح الإشارة و ربطه بالقيادة العامة، بجانب تقدم سلاح المدرعات و انفتاحه في حدود المسؤلية ُتظهر أن الجيش بات يتحرك وفق خطة مدروسة، تهدف ليس فقط إلى تحقيق مكاسب ميدانية بل إلى إعادة تشكيل الخريطة العسكرية و السياسية للحرب .
أيضاً تصريحات مالك عقار حول العقوبات الأمريكية، و وصفها بالكيدية تُبرز بعداً آخر من الصراع و هو التدخل الدولي و تأثيره على مسار الحرب. السودان، الذي يعاني من إرث طويل من العقوبات منذ عام 1999، بات يُدرك أن هذه الضغوط ليست سوى أداة لتفكيك تماسك الدولة وإضعاف موقفها التفاوضي . لكن تصريحات عقار التي تدعو الشعب للتماسك، تُظهر وعياً بضرورة استثمار هذه اللحظة الحرجة لتعزيز الوحدة الوطنية و تجاوز الخلافات السياسية بعيداً عن الاستقطابات الداخلية أو الخارجية.
كذلك اعتراف عقار بوجود تجاوزات خلال الحرب يُضيف بعداً من المصداقية، و يُذكر بأن الحروب مهما كانت أهدافها، يقودها بشر و ليس ملائكة. هذا الاعتراف يُمكن أن يُشكل أساساً لبناء مصالحة وطنية مستقبلية، إذا ما تم التعامل معه بجدية و مسؤولية.
علي ضوء ذلك فإن السيناريوهات المستقبلية تظل متأرجحة بين الحسم والتسوية هذه الفرضيات يمكن تقديمها كالآتي: حسم عسكري كامل بما يعني أن الجيش يواصل تقدمه ويستعيد السيطرة الكاملة على العاصمة والمواقع الاستراتيجية مما ينهي الحرب بشروطه.
الثانية تفاوض مشروط : في حال تحقيق انتصارات ميدانية كبرى ، قد تُفرض شروط تفاوضية جديدة تضمن إنهاء الصراع مع الحفاظ على وحدة الدولة . دون الخضوع للابتزاز الإقليمي والدولي . الثالث إستمرار الحرب لأجل طويل في حال استمر الدعم الخارجي لمليشيا الدعم السريع ، قد تتحول الحرب إلى استنزاف طويل ينهك جميع الأطراف هذه الفرضية بالنظر إلى الاتجاه الإقليمي والدولي الداعي لإنهاء الحروب في المنطقة يصبح مستبعدا لكنه يحتاج الي واقع عملياتي جيد علي الارض .
رغم التصعيد الميداني، يظل الأمل قائماً في أن تُفضي هذه الحرب إلى سلام مستدام . لكن هذا السلام لن يتحقق دون معالجة جذور الأزمة التي قادت إلى الحرب ، سواء كان ذلك عبر بناء دولة القانون، أو تعزيز المشاركة السياسية بما يشمل جميع السودانيين .
من واقع هذه السرديات فإن الشعب السوداني بات يترقب صوت الآلة النحاسية المنبعثة من ذلك الجندي كأنما يطلب من التاريخ الانحناء . البُروجي الذي يرتفع فوق سارية القيادة العامة للجيش ، ليس مجرد إعلان رسمي لنهاية الحرب ، بل هو تجسيدٌ لمعركة طويلة انتصر فيها الوطن على المؤامرة ، وصاغ عبرها جيشه ملحمة كرامة تستحق أن تُخلَّد . إنه صوت تتردد أصداؤه عبر التاريخ والجغرافيا ، عابراً النيل إلى كل بيت سوداني، ليخبر الجميع أن الوطن عاد موحداً ، وأن الراية ستظل مرفوعة تحكي عن عظمة اهل السودان الذين أفشلوا أكبر مؤامرة في تاريخهم الحديث .تلك هي الإجابة وذلك هو وجه الحقيقة .
دمتم بخير وعافية .
الأربعاء 22 يناير 2025م. Shglawi55@gmail.com
كل المواضيع في غايه الاهميه