مقالات الرأي
أخر الأخبار

وجه الحقيقة … عثمان “الصلات الطيبة” تفاصيل اتصال هاتفي بعد منتصف الليل: قصة هروب ؟! .. بقلم/ إبراهيم شقلاوي

لاشك أن الحرب المشتعلة في الخرطوم منذ ابريل من العام الماضي خلفت بين طياتها ذكريات و آلام و مآسي بعضها ربما تكفكفه الأيام و البعض الآخر سيظل عالق في ذاكرة أصحابه لأنه الفاجعة التي حفرت في الوجدان، صديقنا (عثمان أحمد عبد الله) الملقب” بالصلات الطيبة ” شاب وديع تكاد الابتسامة لا تفارق محياه ، لم أكن اعلم ان خلف تلك الابتسامة و ذاك الحرص الذي يجعله ينقب في الحياة الاجتماعية لمن حوله للحصول علي أدق التفاصيل التي تعتري حياتهم من أفراح وأحزان، كان عثمان مهموما بالحياة الاجتماعية لكل من في المبنى الذي كان يجمعنا ،في شرق الخرطوم، كان حريص أن يظل الجميع ملازماً رباط الاخاء و الزمالة، كان دائما ما يفاجئنا بورقة مكتوب فيها اسمك و المبلغ الذي يجب أن تساهم به دون استئذان لأجل إعانة مريض أو استقبال مولود، و لا تستطيع أن تراجعه “تدفع بس “و من هنا اكتسب لقبه (الصلات الطيبة) ساعده على ذلك ثلاثة غيره في ذات المبني يشاركونه ذات الإسم عثمان لذلك رأي الزملاء أن يميزوه بهذه الصفة النبيلة.

كان عثمان يخصني بذكرياته وآلامه وأحزانه ، لكن لم يحدثني يوما عن والدته المقعدة التي لا يبارحها بعد أن يقضي كل احتياجاتها الصباحية من اغتسال واعداد الطعام والشاي ، لذلك كان دائما ما يأتي إلى العمل متأخرا دون أن يفصح عن الاسباب ، لكننا كنا نعذره بحكم تخصصه في علوم الحاسوب ونعتبر أن التخصص يجعله يذهب لعدد من الاماكن لكسب الرزق الإضافي بعد انقضاء الدوام الرسمي للعمل وربما يعود للبيت متأخرا ، لذلك يأتي إلى العمل أيضا متأخرا جراء الإرهاق . بعد أن اندلعت الحرب فقدنا جميعا التواصل مع بعضنا كل منا ذهب في اتجاه إلا عثمان قال لي كنت عالقاً في وسط الخرطوم بمنطقة نمر 2 ، صحوت في صبيحة ذلك اليوم المشؤوم على أصوات الرصاص و قصف الطيران الذي استمر طوال الليل كنت أتابع الأخبار في الفضائيات كأني في بلاد غير السودان وغير الخرطوم الوديعة التي كانت تصحوا و تنام علي صوت الآذان.

“الصلات الطيبة” بدأ بسرد قصته بعد طول فراق عبر الهاتف و نبرة صوته المتهدج تخترق صمت المكان بدأ الحديث، شعرت بشيء غريب في صوته كأنه يحاول أن يخفي حزنه في كبرياء. كان عثمان كعهدي به يحاول أن يبدو قوياً متماسكاً ، و أن يظهر بمظهر الرجل الذي لا تعتريه صروف الدهر و نوائبه، بالرغم من ذلك كان صوته يعتصر الألم و مر الذكريات، “تعرف يا إبراهيم يا أخوي، كما تعلم فإن الحياة لا تسير كما نخطط لها ، أليس كذلك؟” قالها بصوت منخفض، بصعوبة “نحن هنا، في القاهرة. نعم في القاهرة. أنا، و سلمى زوجتي و أمي و أحمد إبني و لجين جاية في السكة” و ضحك ضحكة مبتورة ليست كالضحكة التي عرفته بها.

كان الحديث مختصراً أو كما بدا لي لكن الكلمات كانت تحمل مشاعر مرتبكة. بعد صمت طويل، سألته عن تفاصيل خروجه من وسط الخرطوم ، ضحك مره ثانية بذات الألم، كأنه يحبس دموعه ، قال لي: “هذه دراما طويلة أشبه بدراما أسامة أنور عكاشة، فقط أردت أن أكون معهم في أمان بعيداً عن أرض الموت اللئيم، أن أخرجهم من هذا الجحيم الذي بدأ يحيط بنا من جميع الأنحاء. لم نستطع الصمود في الخرطوم يا صديقي.” كان واضحاً أن الكلمات تخرج منه بصعوبة ، كأنها تقاوم الجروح التي لم تلتئم بعد ، أكمل حديثه و هو يعتصر ألم يتدفق من ذاكرة مثقلة بالجراح ، “في البداية و حتي الشهر الأول من الحرب، كانت حياتنا تسير بشكل طبيعي خلا أصوات الرصاص و الاشتباكات ثم ما لبث أن تبدل الحال حين دخلت المليشيا.

كانت تمارس إرهاباًمنظماً على الجميع في كل مكان من الأحياء إلى الشوارع. عندما اقتحموا مربعنا حيث أسكن (في نمرة)، لم يعد هناك مكان آمن. كنت أرى الناس يفرون، يختبئون، لكنني لم أتمكن من الهروب مباشرة  كنت مضطراً للبقاء بالقرب من أمي وزوجتي و ابني الرضيع لكن في النهاية كل شيء أصبح مستحيلاً، واهم من ظن أن باستطاعته التعايش مع المليشيا. كانت الكلمات تكشف عن معاناته بوضوح. عندما وصل الحديث إلى مرحلة كيفية الهروب، شعرت بألمٍ يغلف الكلمات. واصل حديثه “بعدما قررت المخارجة، عرفت أن الطريق لن يكون سهلًا كنا محاصرين أي و اللهحصار راسو عديييل”، ثم واصل في ضحكته الحزينة “كل الطرق مغلقة أمامنا فقررت أن أشتري حريتي ياصديقي”.

“في البداية، اتفقت مع أحد أفراد المليشيا على دفع المال مقابل أن يساعدني على الهروب. كانوا يبحثون عن المال، و كانوا مستعدين لفعل أي شيء مقابل ذلك. اتفقت معهم على رحلة من وسط الخرطوم إلى أن وصلت إلى نقطة ارتكاز في بداية شارع المعونة عند المؤسسة . كانت الأمور شديدة الخطورة، و لكنهم وعدوني بأمان خشيت أن يكون “وعد عرقوب ” و مع ذلك ، لم يكن هناك ضمان على حياتي أو حياة عائلتي. كانت الرحلة كما تعلم لا تستغرق وقتًا طويلاً في الأيام المعتادة، رغم ذلك علينا أن نبذل جهداً مضاعفاً للوصول إلى مكان آمن. تعرف ياصديقي دفعت خمس أساور من الذهب كانت ملكاً لزوجتي ، بالإضافة إلى 9 مليون جنيه سوداني كنت ادّخرها للعلاج و الوالدة ، حتى يبقى لها الأمل في الحياة كانت تعاني من الفشل الكلوي تحتاج للغسيل باستمرار ، كانت تلك الأموال كل ما نملك بالإضافة لخاتم الزواج الذي خبأته سلمى لنكمل بمقابله الرحلة حيث الأمان . في النهاية، أوصلوني إلى منطقة الكدرو كانت رحلة شاقة وسط زخات الرصاص ، ثم إنتقلت إلى شمال أم درمان عبر مراكب نيلية، إلى أن وصلنا إلى الأمان حيث مناطق سيطرة الجيش السوداني . لم يكن الأمر سهلاً ، لكنني تمكنت من الوصول . بحمد لله و توفيقه و دعوات والدتي التي كانت أكثر صبراً منا جميعاً”.

كان عثمان يتحدث و كانت الكلمات تخرج منه في ألم ممزوج بالحسرة، واصل الحديث عن تلك الرحلة المتعبة التي أخذته إلى ولاية نهر النيل ثم عبر منطقة (أبو حمد) إلى (الكسارات) ثم إلي القاهرة عبر التهريب، متجاوزاً الحدود للحاق بجموع السودانيين الفارين من الحرب “كانت الحياة يا ابراهيم عبارة عن فوضى مهمها صورتها لك لن أستطيع أن اضعك في تلك المعاناة ، تخيل من نمرة 2 حتي عبرنا الي محلية كرري استغرق الأمر يومان دون طعام كانت كل خطوة تحمل معها الخوف ، كأنك تمشي علي الأشواك. و لكن في النهاية اتخارجنا و الآن أحدثك من قاهرة المعز” ، ثم ضحك ضحكة مجلجلة أشبه بتلك الضحكة التي عرفتها عنه من قبل. كان هذه المره صوته كأنه ذلك الصوت الودود فيه نبرة أمله في العودة بعد انتصار الجيش قلت له بالأمس “يا صديقي الجيش دحر المليشيا وصل إلى سنجة، و نحن ننتظر أن يتحرك إلى الجزيرة. كل الشواهد تقول أن النصر قريب أكد الرئيس البرهان ذلك.”

في تلك اللحظة شعرت “بالصلات الطيبة” يتحدث عن العودة إلى الخرطوم و كأن الخرطوم نفسها تنتظره. و كأن الحياة لا يمكن أن تكتمل بدون العودة إلى تلك المدينة التي أحبها و أحبته، ختم حديثه أو كاد: “على أية حال نحن علي يقين أن العودة باتت قريبة”. كان عثمان يعبر عن شيء أعمق من مجرد العودة إلى الخرطوم، كان يتحدث عن العودة إلى الإنسانية نفسها إلى سعيه بين الناس بالخير و المعروف ، إلى تلك اللحظات الماتعة ، إلى شوارع الخرطوم التي شهدت كل لحظة من لحظات حياته. كانت كلماته مفعمة بالثقة و بالرجاء حتى في أصعب الأوقات. في تلك اللحظة، شعرت أن هذه الاتصال الليلي المفاجئ و الذي أسعدني و أزعجني لم يكن مجرد اتصال بل كان قصة هروب من حربٍ صنعها أهل السياسية دون وعي أو حكمة بل أعملوا فيها كل أطماع النفس البشرية لأجل إشباع شهوة السلطة على حساب الشعب السوداني حتي لو كان عبر انقلاب مدعوم إقليمياً و دولياً لاختطاف البلاد دون تفويض. لذلك فإن وجه الحقيقة يجعلنا نرى قصة عثمان كأنها قصة شعب بأكمله فقد الثقة في السياسة و السياسيين و أصبح يبحث فقط عن الأمن و العودة للديار .
و دمتم بخير وعافية.
الاثنين 25/نوفمبر 2024م. Shglawi55@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى