وجه الحقيقة .. محطة المنارة: غياب التخطيط الاستراتيجي!.. بقلم إبراهيم شقلاوي

تعد محطة (المنارة) للمياه في الخرطوم من الأعمدة الأساسية في تأمين إمدادات المياه لمحليات كرري، أم درمان و أم بدة. منذ إنشائها في عام 2010 بتكلفة بلغت 106 ملايين دولار،نصفها منحة هولندية، كانت المحطة تمثل إنجازًا مهمًا في تحسين البنية التحتية الخدمية. و لكن مع اندلاع الحرب المستمرة تكشفت هشاشة إدارة هذه المنشأة الحيوية التي تفتقر إلى التخطيط الاستراتيجي الكفيل بضمان استمرارية عملها في ظل الأزمات. و بدلاً من أن تكون مثالًا على النجاح، تحولت إلى رمز للافتقار إلى الاستعداد لمواجهة التحديات الطارئة التي تهدد استمرارية الخدمات.
في هذه الأيام، تمر المحطة بأزمة كبيرة نتج عنها التوقف التام للضخ الرئيس، مما تسبب في العديد من التداعيات. في هذا المقال نحاول قراءة الواقع الماثل، حيث تعاني محطة المنارة من انقطاع متكرر في إمدادات المياه بسبب الاعتماد الكلي على شبكة الكهرباء التقليدية، مما يجعلها عرضة للتوقف التام في حال حدوث أي خلل في هذه الشبكة. و يبدو أن المحطة لم تكن مجهزة بأي بدائل طاقة، مثل المولدات الاحتياطية ذات الكفاءة العالية أو أنظمة الطاقة الشمسية.
الأزمة تفاقمت بشكل كبير عندما استهدفت مليشيا الدعم السريع محطة كهرباء سد مروي، ما تسبب في انقطاع عام للكهرباء أدى إلى توقف تشغيل المحطة. هذا الانقطاع دفع سكان محليات كرري وأم درمان وأم بدة للجوء إلى شراء مياه التناكر بأسعار باهظة، فضلًا عن عدم توفرها في بعض المناطق. و ازدحمت الشوارع بصفوف المواطنين بحثًا عن الماء من محسن يمتلك صهريجًا أو متطوع أحضر (تنكرًا) لإعانة الناس.
علاوة على ذلك، تعاني محلية كرري من زيادة سكانية كبيرة نتيجة النزوح. بعد استعادة الجيش الأمن في مناطق واسعة من العاصمة، شهدت محليات أم بدة وأم درمان عودة كبيرة للمواطنين، مما فاقم الضغط على الموارد الخدمية المحدودة، دون أن يقابله استعداد أو قيام فرق طوارئ لمجابهة الأزمات المحتملة. ومع استمرار الانقطاعات في إمدادات المياه، توقفت العديد من الأنشطة اليومية، بما في ذلك إغلاق المدارس و تعطل الأنشطة الاقتصادية، و توقف عدد من المخابز عن العمل التي كان يجب إلزامها بتوفير مولدات كهربائية.
هذه المشكلات تظهر بوضوح غياب التخطيط الاستراتيجي في زمن الحرب، مما أثر بشكل كبير على حياة المواطنين ووسع من معاناتهم. الأزمة تجددت اليوم بكل تفاصيلها دون اعتبار من الذي حدث في منتصف العام الماضي، حيث توقفت المحطة مؤقتًا بسبب نقص مواد التنقية، التي كان من الممكن الاحتياط لها في وقت مبكر. لكن يبدو أن المنشأة تعاني من ضعف إداري يستوجب المراجعة وتحديد المسؤوليات. اليوم، مع عودة الأزمة دون أن يكون هناك دروس مستفادة، يجعل الأمر محيرًا فعلًا.
لذلك، تظل المطالب العاجلة ضرورة توفير مولدين كهربائيين: أحدهما ضمن الخدمة و الآخر احتياطي لضمان استمرارية عمل المحطة في حالات الطوارئ، أو إدخال نظام الطاقة الشمسية كطاقة بديلة و مستدامة لتقليل الاعتماد على الكهرباء التقليدية. كذلك من المهم وضع خطط طوارئ تشغيلية واضحة تضمن استمرارية الخدمات الحيوية حتى في ظل الظروف الاستثنائية، و تحسين التنسيق المدني-العسكري لتعزيز التكامل بين الجهات لضمان إدارة أفضل للأزمات.
إن استمرار هذه الأزمة دون حلول جذرية يشكل تهديدًا مباشرًا لحياة المواطنين في محلية ام بدة و كرري ، التي باتت تمثل العاصمة البديلة في ظل الظروف الراهنة. الواضح أن “الخطة ب” التي ظلت تتحدث عنها مليشيا الدعم السريع قائمة على استهداف البنية التحتية واستخدامها كساحة للصراع للضغط على الجيش والحكومة للذهاب إلى مفاوضات. لذلك، إن استهداف المرافق الحيوية مثل الكهرباء والمياه يعكس توظيفًا ممنهجًا للحرب في تعطيل الحياة اليومية للمواطنين.
كما نعلم، فإن مليشيا الدعم السريع تعتمد على استراتيجيات تدمير البنية التحتية لإضعاف الثقة الشعبية في قدرة الدولة على إدارة الأزمات. ويمثل استهداف المرافق بهذه الطريقة تحولًا نوعيًا في أساليب الحرب، حيث تُستخدم الطائرات المسيّرة لتكثيف الضغط على المدنيين، مما يجعل استمرار الخدمات الأساسية مهددًا بالخطر.
إن إدارة الأزمات في زمن الحرب تتطلب تعزيز التعاون بين القطاعات المدنية و العسكرية بصورة فعالة لضمان توفير الخدمات الأساسية في أوقات الحرب.
رسالة أخيرة
بحسب ما نراه من وجه الحقيقة للسيد والي الخرطوم (أحمد عثمان حمزة)، فإن توقف محطة المنارة عن ضخ المياه يمثل تحديًا كبيرًا يضع المواطن في مواجهة مباشرة مع الأزمات الإنسانية. تأمين المياه حق أساسي، و كذلك تأمين عمل المخابز و يجب ألا يتأثر بالحرب. معالجة هذه الأزمة تبدأ بتوفير بدائل حقيقية و مستدامة. المسؤولية الآن تتطلب قرارات جريئة تستجيب لحاجة المواطن و تعيد الثقة في قدرة الدولة على حماية أبسط حقوقه في ظل الظروف الراهنة.
جهودكم منذ اندلاع الحرب محل تقدير، و أنتم ترتبون دولاب العمل هذه الأيام من خلال التعديل الوزاري و تقصير الظل الإداري. يجب مراجعة كفاءة الأجهزة و الكوادر العاملة ورفع التحدي والمسؤولية لدى كل طاقم الولاية. فإدارة الأزمات في زمن الحرب تختلف عن إدارتها في أوقات السلام. لا تدعوا فرصة ينفذ منها العدو، حتى لو كان ذلك تعطيل إجراء أو ضعف تنفيذ.
كما تتطلب المرحلة القادمة تبني استراتيجيات جذرية تركز على استدامة الخدمات و حماية حقوق المواطنين، وتعزيز التنسيق المؤسسي بين الجهات الحكومية و العسكرية، و تطوير خطط استباقية تمكن الولاية من استعادة الأمن و تحقيق السلام.
دمتم بخير و عافية.
الخميس 16 يناير 2025م
Shglawi55@gmail.com