مقالات الرأي
أخر الأخبار

وجه الحقيقة .. هل غادر حميدتي المشهد السوداني؟! ..بقلم/ إبراهيم شقلاوي

في الذكرى التاسعة و الستين لاستقلال السودان، ألقى المتمرد محمد حمدان دقلو “حميدتي”، قائد مليشيا الدعم السريع، خطاباً صوتياً بُث عبر الوسائط الإعلامية. أثار هذا الخطاب تساؤلات جوهرية حول مضمونه ودلالاته السياسية والأمنية في ظل الأوضاع الراهنة. يأتي هذا التحليل ليبحث عمق التناقضات التي تضمنها الخطاب، وأثره على المشهد السياسي و الأمني السوداني، بالإضافة إلى الإشارات التي يحملها حول حالة القائد نفسه و مستقبل ميلشياته بالنظر إلى تطورات الوضع الميداني الذي تختلط فيه المعلومات بين المصداقية و الحرب الإعلامية.

لذلك من المهم، و نحن نحاول تفكيك الخطاب، الوقوف عند التناقض الواضح بين السردية المعلنة و الواقع الميداني. فيما يخص حديث حميدتي عن “انتصارات قواته”، فإن الواقع يعكس تراجع المليشيا أمام الجيش في محاور عدة، أبرزها تحرير مدينة (سنجة) الذي يمثل انتصاراً استراتيجياً للجيش و يعزز سيطرته على المناطق الحاكمة بين سنار و الجزيرة و النيل الأزرق. كذلك تقدم الجيش في محلية بحري، الذي أوشك على الوصول إلى سلاح الإشارة، يعكس اقترابه من السيطرة الكاملة على الخرطوم، بالنظر إلى العمليات النشطة المتكتَّم عليها في محور المقرن و شرق النيل عبوراً من جسر المنشية. كذلك عملية قاعدة (الزرق) الاستراتيجية يؤكد قدرة القوات المسلحة على استعادة النقاط المحورية التي كانت تحت سيطرة المليشيا.

هذا الواقع الميداني يكشف عن تناقض خطاب حميدتي، كما يدلل على وجود أزمة حقيقية في قدرته على توجيه الأحداث أو التحكم في مسار الحرب. الأمر الآخر، اعتماد الرجل على خطاب صوتي بدلاً من الظهور المباشر أثار تساؤلات حول وضعه الصحي، بالنظر إلى ما أورده موقع “اليوم نيوز” عن مصدر بمنظمات طوعية يقيم في العاصمة الكينية نيروبي، حيث ذكر أن الحالة الصحية لزعيم المليشيا تدهورت بصورة واضحة خلال الشهر الماضي، و في آخر لقاء جمعه به، حيث إنه يعاني منذ فترة طويلة من التهاب الكبد الفيروسي، و نتيجة للاضطرابات العصبية و الحالة النفسية تفاقمت الآثار الجانبية، بات نحيلاً جدًّا لا يقوى على الوقوف. بالنظر إلى أن الرجل في الماضي كان يظهر وسط جنوده كقائد ميداني، أما الآن، فإن هذه السردية تعزز فرضية تراجعه عن هذا الدور فيما يبدو أنه تم تحييده سياسياً.

كذلك برزت خلال الخطاب محاولة استمالة الخارج من خلال التركيز على مصطلحات مثل “حقوق الإنسان”، “الديمقراطية”، و “الحكم المدني”، و هي لغة تستهدف استمالة المجتمع الدولي أكثر من مخاطبة الشعب السوداني. لأول مرة يمر خطاب لحميدتي دون اهتمام يُذكر من السودانيين بمن فيهم أنصاره. حيث وصف خبراء الخطاب بأنه الأضعف منذ بداية الحرب، مشيرين إلى افتقاره للتماسك و بروز لغة الانهزام النفسي. هذا التوصيف يعكس التآكل المتزايد لشعبيته بين مؤيديه و خصومه على حد سواء حيث لم يعد قادراً على إحداث تأثير يُذكر.

كذلك، التناقضات بين خطابه و الممارسات الميدانية تعزز حالة الارتباك و التشرذم داخل صفوف المليشيا التي تواجه ضغطاً متزايداً من القوات المسلحة السودانية في الميدان. كذلك الخطاب يكشف تراجع الدعم الدولي و الإقليمي وانخفاض الدعم الخارجي الذي كانت تتمتع به المليشيا سابقًا. كما أن الخطاب بدا و كأنه محاولة لإعادة تقديم (دقلو) كشخصية تصالحية، لكنه افتقر إلى المصداقية و التماسك. الواضح أن الخطاب يطوي مرحلة مهمة من مراحل التمردين و يستقبل مرحلة أخرى، بما عبّر عنه من ضعف في تماسك مضمون الخطاب الذي عكس انهيار هذه المليشيا التي تواجه ضغوطاً عسكرية متزايدة و خسائر ميدانية كبيرة.

كذلك، فشل الخطاب في تقديم رؤية جديدة أو استراتيجيات فعالة، مما يعكس تراجع قدرة حميدتي على قيادة المعركة. تبرز أيضاً خلال هذا السياق ردود الفعل الحكومية والشعبية، حيث وصفت الحكومة السودانية الخطاب بأنه “متناقض ومشكوك في صحته”. تصريحات وزير الإعلام السوداني خالد الإعيسر ركزت على كشف الفجوة بين أقوال حميدتي وواقع ممارسات ميلشياته. أما عن ردود الفعل في وسائل التواصل الاجتماعي، فلم يجد الخطاب اهتماماً يُذكر، كما وصف خبراء الخطاب بأنه الأضعف منذ بداية الحرب، معتبرين أنه يعكس حالة التراجع و الإحباط التي يعيشها قائد التمرد.

الواضح أن هذه المرحلة التي تعيشها مليشيا الدعم السريع أشبه بمراحل مشابهة عاشتها جماعات عسكرية مسلحة تمردت على الدولة المركزية. نجد ذلك واضح في التجربة الأوغندية المتعلقة بجيش الرب الأوغندي “جوزيف كوني”، حيث تم تحييد جيشه بعد فقدانه للدعم الدولي و الإقليمي و عزله في المناطق النائية في العام 2012. كذلك، حركات التمرد في أنغولا التي شهدت عام 2002 مصيراً مشابهاً بعد القضاء على قياداتها الرئيسية. كذلك التجربة الإثيوبية مع تمرد تيغراي، التي بدأت عام 2020 بين الحكومة الإثيوبية وجبهة تحرير تيغراي. سيطرت جبهة تيغراي على مناطق واسعة شمال إثيوبيا، بما في ذلك عاصمة الإقليم (ميكيلي)، و بعد عامين من القتال، تم إخضاعها في نوفمبر 2022، و استعادت الحكومة الإثيوبية السيطرة. تشير هذه النماذج إلى أن حركات التمرد التي تفقد الدعم الخارجي تنتهي بالخضوع لسلطة الدولة المركزية.

عليه، و فقاً لهذه المعطيات، و بحسب ما نراه من وجه الحقيقة، و في ظل تقدم القوات المسلحة السودانية و استعادة المناطق الاستراتيجية فقد بدأ ميزان القوى يميل لصالح الدولة المركزية. هذا التحول يفتح الباب أمام سيناريوهات جديدة قد تعيد تشكيل المشهد السوداني، بما يعزز استقرار الدولة و ينهي حقبة الدعم السريع. حيث تشير قراءة خطاب حميدتي الأخير إلى مغادره المشهد السوداني كفاعل سياسي و أمني مع تراجع الدعم الإقليمي و الدولي مما يعكس أن النهاية المحتملة للحرب قد تتجه نحو إخضاع المليشيا لسلطة الدولة، مع تحييد قيادتها و إعادة صياغة الواقع السوداني بما يضمن استقراراً كبيراً يتم بموجبه استعادة الأمن و تحقيق السلام للسودانيين.

دمتم بخير و عافية.
السبت 4 يناير 2025م Shglawi55@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى