استراتيجيات … قطر واستراتيجية التوازن العكسي !! .. بقلم د.عصام بطران
– السياسة الخارجية القطرية مبنية على استراتيجية “التوازن العكسي” في العلاقات الدولية التي تتميز بعدم ضبط معياري يحدد اتجاهاتها، فهي نوع من مناهج السياسة الخارجية الذي يلتئم فيه التعامل مع كافة الاحتمالات بقدرعالي من الاحترافية الدبلوماسية بعيداً عن المساس بالثوابت الوطنية والإقليمية والدولية، وسياسة “التوازن العكسي” مسارها الاستراتيجي يعمل في اتجاهات متعددة بحيث لايؤثر أي اتجاه على الآخر؛ فمثلاً لدى قطر علاقات متميزة مع الولايات المتحدة الأمريكية.
– قطر تستضيف قاعدتين عسكريتين أمريكيتين هما قاعدة “العديد” الجوية التي تقع جنوب غرب العاصمة الدوحة، وتُعد أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في الشرق الأوسط ، وكذلك قاعدة “السيلية” التي تبعد عن الدوحة بنحو (35) كم، ويصل عدد القوات الأمريكية الموجود في القاعدتين إلى نحو (11) ألف جندي أمريكي وهو عدد أكبر بكثير من عدد قوات الجيش القطري، وقد وصفتهما قناة “الجزيرة” القطرية بأنهما – أي القاعدتين – أكبر مخزن للأسلحة الأمريكية فى الشرق الاوسط. بينما في الاتجاه المعاكس تمتلك قطر علاقة “فصلية” جيدة مع إيران؛ فأهمّ ما يربط البلدين اقتصادياً هو حقل الغاز المشترك بينهما في مياه الخليج، وبات هذا عاملاً إضافياً ليجعل قطر لا تبتعد عن طهران حفاظاً على مصالحها في الحقل الذي تبلغ مساحته (9700) كلم، وتمتلك منه قطر (6000) كلم بينما تمتلك إيران (3700) كلم. وتعتبر قطر ايران جزءاً من الحل الأمني في المنطقة مع رفضها اعتبار طهران جزءاً من المشكلة نظراً للشكوك التي تنتابها إزاء كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين، وهذا يفسر إصرار الدوحة على مواصلة علاقتها مع إيران ولكنها تعاير كفة العلاقة بينها وبين دول الخليج بميزان الذهب لحساسية وضعها بينهم في الإقليم، وفي ذلك شدد الشيخ “تميم” على ان دولة قطر نجحت في بناء علاقات قوية مع أميركا وإيران في وقت واحد نظراً لما تمثله إيران من ثِقَـل إقليمي وإسلامي لا يمكن تجاهله، وليس من الحكمة التصعيد معها خاصة أنها قوة كبرى تضمن الاستقرار في المنطقة عند التعاون معها وهو ما تحرص عليه قطر من أجل استقرار الدول المجاورة.
– نموذج اخر لعلاقة قطر مع اقطاب دولية متنافرة ضمن استراتيجيتها “التوازن العكسي” هي علاقتها مع تنظيمات الاخوان المسلمين وحركة طالبان التي افتتحت مكتبا لها في قطر وحركة حماس اضافة الى الاخوان المسلمين الذين فروا من مصر في الستينات وسوريا في الثمانينات وبينهم من اقامو في قطر كالشيخ “القرضاوي” وكذلك رموز الحركة الاسلامية في السودان ومنهم الدكتور حسن الترابي ،، وفتحوا القطريين ابواب العلاقة مع سائر فروع التنظيم حول العالم واكد الشيخ “تميم” امير قطر انه لا يحق لاحد ان يتهم قطر بالارهاب من وجهة نظره لانه صنف الاخوان المسلمين جماعة ارهابية او رفض دور المقاومة عند حماس وحزب الله وطالب مصر ودولة الامارات العربية المتحدة ومملكة البحرين بعدم التدخل في مسارات علاقاتها الخارجية .. وفي الجانب الاخر تمثل علاقة قطر باسرائيل طرف النقيض في علاقتها مع الاخوان المسلمين وايران الذين لايقبلون اي علاقات دبلوماسية مع الدولة العبرية فقطر تربطها اتصالات دبلوماسية وتجارية معلنة مع إسرائيل حيث تصدر إليها الغاز، وعندما مُنحت قطر شرف استضافة كاس العالم لكرة القدم (2022)م أعلنوا مبدئياً انذاك عن السماح لإسرائيل بالمشاركة في البطولة إذا حقّقت متطلبات التأهُّل لكاس العالم.
– إن ما يخدم قطر في انتهاج استراتيجية “التوازن العكسي” ونجاحها في خلق علاقات متميزة مع اقطاب متنافرة في آن واحد هو ارتكازها على بنية اقتصادية ضخمة؛ حيث تمتلك قطر ثلث الاحتياطي العالمي للنفط، بجانب أنها تصدرت قائمة الدول المصدرة للغازعالمياً متجاوزة اندونيسيا في العام (2010)م، حيث وصل إنتاجها إلى (77) مليون طن سنويا بنسبة (30%) من صادرات الغاز المسال في العالم، بينما يقابل هذه البنية الاقتصادية الضخمة عدد قليل من السكان أدى الى ارتفاع في مستوى الدخل للفرد والذي قلل بدوره من أي تفاعلات واضطرابات داخلية أعطت الفاعلين في السياسة الخارجية القطرية مساحة للمناورة السياسية سواء قبل الربيع العربي أو في اثنائه، حيث بلغ نصيب المواطن القطري من إجمالي الناتج المحلي خلال عام (2011)م حوالي (440) ألف دولار الأمر الذي أدّى إلى عدم وجود رغبة للمعارضة السياسية الداخلية في قطر مما اوجد مساحة لنجاح استراتيجية “التوازن العكسي” . وثاني هذه المرتكزات هو دور الوساطة الدولية والاقليمية الذي قامت به قطر وبأسلوب محايد في معالجة النزاعات الشائكة مع بناء علاقات متزنة مع جميع الأطراف المتنازعة جعلها مصدر ثقة، بحيث لاتمثل انحيازاً سياسياً لطرف دون الآخر، وتعدّدت نماذج الوساطات القطرية لتشمل اليمن (2010)م، ولبنان (2008)م ، ودارفور منذ (2008)م، كما عملت الدوحة كذلك على حل نزاعات بين السودان وتشاد (2009)م، وبين جيبوتي وإريتريا (2010)م، إضافة إلى وساطاتها المتكررة في المفاوضات مع حركة حماس وسعت في ملف المصالحة أو إنهاء النزاعات المتكررة مع الكيان الصهيوني مستغلة في ذلك مواردها المالية الواسعة التي استغلتها في حل النزاعات العلاقات الشخصية لحكامها وعلى رأسهم الأمير الأب الشيخ حمد آل ثاني. وتمثل الامبراطورية الإعلامية المرتكز الثالث لانتهاج قطر لاستراتيجية “التوازن العكسي” وتعتبر قناة الجزيرة في قطر اكبر داعم لسياسة قطر الخارجية؛ فمنذ تأسيسها في عام (1996)م أخذت تتوسع في جميع أنحاء المنطقة، بل صارت تبث للولايات المتحدة الامريكية نفسها، كما اشترت قطر أيضا مجموعة قنوات فرنسا وبرز دور قناة الجزيرة كأحد وسائل النفوذ القطري مع انطلاق ثورات الربيع العربي.
– قطر أول من استخدم استراتيجية “التوازن العكسي” في سياستها الخارجية بنجاح دون الكثير من دول العالم التي جربت هذه الاستراتيجية وكتب لها الفشل في ممارستها لعدم وجود مرتكزات قوية ترتكز عليها كما الحال في قطر، و استراتيجية “التوازن العكسي” هي استراتيجية مبنية على بناء علاقات خارجية متناقضة بين أطراف متنافرة في آن واحد وذلك لتحقيق أهداف استراتيجية متشابكة ومعقدة، فمثال لذلك علاقة قطر مع أمريكا حيث تمثل قواعدها العسكرية حماية لها من التكتلات الدولية الطامعة في ثرواتها الاقتصادية، وعلاقتها مع إيران تمثل لها حماية من التكتلات الإقليمية الكبيرة من حولها في منطقة الخليج، وعلاقتها مع إسرائيل تؤمّن لها موقفها أمام القوى الغربية وتسمح بتمرير وارداتها وصادراتها بأفضل الأسعار العالمية، وعلاقتها مع الاخوان المسلمين والحركات الاسلامية تمثل خط دفاع لها من النفوذ المصري وتغوُّله وانفراده بأصول السيادة الإقليمية ويجعلها أيضا في حماية من رغباتهم بتغيير نظام الحكم فيها. وهكذا تغذي استراتيجية “التوازن العكسي” الأقطاب المتنافرة في شكل دائري يمثل فيه كل قطب تِرس يحرك الاخر.
– أشفق كثير من الخبراء والمحللين الاستراتيجيين على قطر نتيجة الحملة التي وُجّهت ضدها مؤخراً واتهامها بدعم الإرهاب والإرهابيين بالمنطقة مما خلق لها عداء مع السعودية، ودولة الامارات العربية المتحدة، والبحرين ومصر، و لكن بكل تأكيد الوزنة الدولية تميل في محور ارتكازها لصالح قطر؛ حيث أن حفظ كِفّـتي الميزان بالمنطقة والإقليم تلعب فيه “أمُّنا” أمريكا دوراً كبيراً، وإن مصالحها العسكرية والأمنية والاقتصادية وخاصة مع حليفتها الاستراتيجية إسرائيل إضافة الى قيام قطر بكثير من الأدوار السياسية بالوكالة عن الولايات المتحدة في المنطقة تؤمن لعلاقات متميزة معها ولعل الايام المقبلة كفيلة بايجاد تفاهمات سياسية بينها وبين دول الخليج الاخرى وبذلك تؤكد قطر نجاحها مرة اخرى في ممارسة استراتيجية “التوازن العكسي”.