اعتماد موازنة طوارئ إنمائية تركزعلى القطاعات الإنتاجية والخدمية .. بقلم/ زهيرعبدالله مساعد

يعيش السودان اليوم واحدة من أشد الأزمات الاقتصادية تعقيدًا في تاريخه الحديث، أزمة لم تعد تنفع معها الأدوات التقليدية التي تعتمد على موازنات تسييرية مكررة، تركز على الإنفاق الإداري و تغفل القطاعات الحيوية القادرة على توليد القيمة الاقتصادية الحقيقية. لقد كشفت الحرب الأخيرة، و ما صاحبها من تفكك في البنية الإنتاجية و الخدمية عن ضرورة إحداث تحوّل جذري في طريقة التفكير الاقتصادي للدولة، يكون أكثر استجابة و مرونة لاحتياجات الواقع و أقرب لآمال الشارع السوداني في العيش الكريم.
في هذا السياق، تبرز (موازنة الطوارئ الإنمائية) كخيار إستراتيجي لا يمكن تأجيله. فهي لا تمثل مجرّد إجراء ظرفي لمواجهة تداعيات الحرب، بل تشكل تحولًا في رؤية الدولة لطبيعة الإنفاق العام، حيث يتم توجيه الموارد المحدودة نحو قطاعات ذات أثر مباشر على حياة الناس، مثل الزراعة و الصناعة و الصحة و التعليم، بعيدًا عن الهدر الإداري أو التوسع غير المدروس في الإنفاق.
تقوم هذه الموازنة على فلسفة تحفيز عجلة الإنتاج، و استعادة الخدمات الأساسية عبر ترتيب أولويات الإنفاق وفق ضرورات التنمية و التعافي. فالزراعة مثلًا، بوصفها ركيزة الاقتصاد السوداني، تحتاج إلى دعم مباشر لمُدخلات الإنتاج، من تقاوي و سماد و وقود، مع ضرورة التوسع في الزراعة المطرية و المروية لمقابلة الاحتياجات الغذائية المتنامية داخليًا، و تحقيق فوائض للتصدير خارجيًا. أما الصناعة، فلابد من تعزيزها عبر دعم الصناعات التحويلية الصغيرة و المتوسطة، و تسهيل الحصول على الآلات و المعدات من خلال خفض الرسوم الجمركية، بما يضمن خلق فرص عمل و تحقيق قيمة مضافة.
و لأن الثروة الحيوانية تمثل أحد أهم مصادر الدخل القومي، فإن تحسين البنية التحتية البيطرية، و دعم التصدير و السيطرة على الأمراض العابرة، سيُسهم في تنشيط هذا القطاع بفعالية. كذلك لا يمكن تجاهل قطاع المعادن، و على رأسه الذهب، الذي يحتاج إلى تنظيم عاجل من خلال التعدين الأهلي، و ضمان الشفافية في تسويق الذهب و تحفيز الاستثمارات المسؤولة في مجال الاستخراج و المعالجة.
في الجانب الخدمي، تأتي الصحة والتعليم في صدارة الأولويات، بما يتطلب صيانة وتجهيز المستشفيات، وضمان الإمداد الدوائي، بالتوازي مع إعادة تشغيل المدارس، وتحفيز الكوادر التربوية على العودة للعمل. كما أن خدمات الكهرباء و المياه تحتاج إلى دعم مباشر يضمن استمراريتها، نظرًا لتأثيرها المباشر على الحياة اليومية و الإنتاج. و يكتمل المشهد بالخدمات الحيوية كالنقل و الاتصالات، حيث يجب العمل على تحسين شبكة الطرق و النقل الجماعي لتسهيل حركة الأفراد والبضائع و إنعاش الحياة الاقتصادية في المدن و الأرياف.
إنّ تمويل هذه الموازنة لا يجب أن يكون عبئًا إضافيًا على المواطن، بل يستدعي إعادة توجيه الإنفاق العام بما يخدم الإنتاج والخدمات، و تعبئة الموارد الوطنية من القطاع الخاص و المغتربين، فضلًا عن استخدام المنح الدولية في مشاريع شفافة و محددة الأهداف دون تدخلات سياسية أو بيروقراطية معطّلة.
إن النتائج المنتظرة من هذه الموازنة طموحة لكنها واقعية: تحفيز الإنتاج، خلق فرص عمل، استقرار السوق، تقليل النزوح الداخلي، و تحسين الخدمات الأساسية. و الأهم من كل ذلك، استعادة الثقة بين المواطن و مؤسسات الدولة و فتح أفق جديد لإعادة البناء الوطني على أسس أكثر عدلًا و استدامة.
في الختام، ليست موازنة الطوارئ الإنمائية مجرد إجراء استثنائي، بل نموذج لمشروع جاد للإنقاذ. فهي تمثل خروجًا من الاقتصاد الريعي التابع، إلى اقتصاد منتج، مرن يستند إلى الموارد الحقيقية للسودان، و يستثمر في طاقات أبنائه. إن اعتماد هذه الموازنة هو إعلان واضح بأن البلاد لا تزال تمتلك فرصة للنهوض، شريطة أن يُعاد ترتيب الأولويات و تُوجه البوصلة نحو التنمية لا التسيير و نحو المستقبل لا الماضي.