مقالات الرأي
أخر الأخبار

التخطيط الإستراتيجي مدخلاً لإعادة بناء الدولة في السودان .. بقلم/ د. أحمد الطيب السماني .. مدرب وأستاذ التنمية والإدارة

يمر السودان اليوم بمرحلة دقيقة من تاريخه، بعد أن بلغت الحرب مداها، و تفككت مؤسسات الدولة، و انكمش الاقتصاد و تعمقت الجراح الاجتماعية. في مثل هذه المنعطفات، لا تكفي الحلول الظرفية و لا التصريحات السياسية، بل تصبح الحاجة ملحّة إلى عقل تخطيطي بعيد النظر، قادر على تجاوز الأزمة نحو مستقبل مختلف. و من هنا، يبرز التخطيط الإستراتيجي كأداة مركزية لإعادة بناء الدولة السودانية على أسس علمية و مؤسساتية متينة.

التخطيط الاستراتيجي ليس ترفاً فكرياً، بل هو عملية منهجية تُعنى بتحديد الأهداف الكبرى، و تحليل الواقع، و تعبئة الموارد، و صياغة الرؤية و تنفيذ الخطط وفق مؤشرات أداء قابلة للقياس. إنه أشبه بالبوصلة التي توجه مسار الدولة وسط الأمواج المتلاطمة و تمنحها اتجاهاً و معنى. و لكي يكون هذا النوع من التخطيط مجدياً، لا بد من توافر عدة متطلبات، في مقدمتها المعلومات الدقيقة، و الرؤية الوطنية الجامعة، و الدعم السياسي، و الفريق المؤهل، و المرونة المؤسسية، والثقافة التنظيمية التي تؤمن بالتخطيط وتلتزم به.

أما المخطط الاستراتيجي نفسه، فلا بد أن يتمتع بصفات محددة، منها وضوح الرؤية، و القدرة على تحليل البيئة الداخلية و الخارجية، و صياغة أهداف ذكية، و تصميم خطط تنفيذية، و قياس الأداء مع مراعاة التغيير المستمر و الانفتاح على الأطراف ذات العلاقة. إنه ليس مجرد تقني إداري، بل عقل استشرافي قادر على الربط بين ما هو كائن و ما ينبغي أن يكون.

و في ضوء هذا الإطار المفاهيمي، يمكن أن نلقي نظرة تطبيقية على السودان كحالة دراسية معقدة. منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، انهارت معظم البنى التحتية، و تراجعت الخدمات، و تعمقت الفجوة بين المواطن و الدولة. كما شهدت البلاد انكماشاً اقتصادياً حاداً، و نزوحاً داخلياً واسعاً و عزلة دولية متزايدة. مقابل هذا الواقع، فإن الصورة المرجوة هي دولة مستقرة، عادلة، منتجة، ذات مؤسسات فعالة و خدمات عادلة و حكم رشيد.

لكن بين الواقع و المأمول، تكمن فجوة هائلة تتطلب جهداً تخطيطياً غير تقليدي. و هنا تأتي الحاجة إلى رؤية استراتيجية وطنية شاملة، تُبنى على أساس مشروع سياسي جامع، و خارطة طريق تنفيذية، تراعي الأولويات و تعيد ترتيبها، بدءاً من وقف الحرب و تحقيق السلام، مروراً بإعادة بناء المؤسسات وفق الكفاءة لا الولاءات، و انتهاءً بإصلاح الاقتصاد، و دعم الإنتاج، و إعادة الثقة في التعليم و الصحة و تعزيز الحكم المحلي باعتباره مدخلاً للتنمية المتوازنة.

و لا يمكن تنفيذ هذه الرؤية دون أدوات حقيقية، تبدأ بتأسيس وحدة وطنية للتخطيط تتبع مباشرة لمجلس الوزراء، و تضم خبرات وطنية من الداخل والمغتربين بالخارج، و تُسند لها مهام بناء قواعد بيانات وطنية، و تدريب الكوادر، و تطوير نماذج محلية ناجحة – كتجربة مدينة طابت مثلاً – لتكون نواة لمشروع إعادة الإعمار المجتمعي و التنمية الريفية.

و لعل من الضروري أن تتبنى الحكومة القادمة توصيات عملية في هذا الاتجاه، على رأسها إصدار قانون يلزم بالتخطيط الوطني، وتشكيل مجلس أعلى للتخطيط الاستراتيجي، و اعتماد الشفافية عبر منصات إلكترونية لعرض الأداء ومتابعته، و تضمين مفاهيم التخطيط في التعليم، و دعم المبادرات المجتمعية ذات الجدوى إلى جانب وضع خطة خمسية طموحة تنهض من خلالها الدولة السودانية من أنقاض الحرب إلى أفق الاستقرار.
التخطيط الاستراتيجي ليس خيارًا بل ضرورة ملحة لإعادة بناء السودان بعد الحرب، فهو المنهج الذي يوجه جهودنا نحو السلام و التنمية والازدهار. و لا يمكن أن ينجح أي مخطط استراتيجي دون استصحاب الحكومة بوصفها القائد و المحرك الأساسي لهذه العملية الوطنية. بإرادة وطنية موحدة و عقل استراتيجي، يمكن للسودان أن يتحول من أزمات اليوم إلى آفاق المستقبل المشرق.
إن السودان اليوم لا يحتاج إلى المزيد من الشعارات العابرة، بل إلى مشروع وطني عقلاني، تُديره عقول تخطيطية تؤمن بالوطن لا بالمحاصصة، و بالمنهج لا بالارتجال. وهذه الدراسة ليست سوى لبنة أولى في مسار طويل من التفكير العملي الجاد، نأمل أن تجد طريقها إلى مائدة القرار و أن تُسهم في بناء سودان جديد يتسع للجميع.

و الله من وراء القصد، و هو الهادي إلى سواء السبيل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى