الهجرة النبوية مشروع وطني نكتب به فصلًا جديد من تاريخ السودان .. بقلم/ زهير عبدالله مساعد .. خبير بمركز الخبراء العرب

لم تكن الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة مجرد انتقال من مكان إلى آخر أو هروب من واقع مضطهد، بل كانت نقطة تحول كبرى في مسار الدعوة الإسلامية، إذ مثّلت بداية جديدة لبناء مجتمع متكامل ودولة مدنية تقوم على أسس العدل و المساواة و احترام التنوع. لقد غادر النبي محمد ﷺ و صحبه مكة و هم يحملون في قلوبهم إيمانًا راسخًا برسالة تجاوزت الذات، و ارتقت إلى بناء أمة لا تعرف الانقسام، مجتمع لا تتحكم فيه الانتماءات الضيقة، بل تحكمه المبادئ الكبرى التي تقوم على التعايش و العدل والمواطنة.
حين استقبل أهل المدينة – يثرب آنذاك – رسول الله ﷺ، فتحوا له القلوب و الدور، و ساندوه في تأسيس مجتمع جديد يتجاوز القبلية و الصراع الطبقي و يؤسس لعقد اجتماعي فريد. تمثلت أولى معالم ذلك المجتمع في وثيقة المدينة، التي تعدّ أول دستور مدني حقيقي في التاريخ الإسلامي و قد نظّمت العلاقة بين مختلف مكوّنات المجتمع، بما فيها المسلمين و اليهود و المشركين، على أساس الحقوق و الواجبات، و التعاون في السلم و الحرب و احترام حرية المعتقد، مما شكّل نموذجًا مبكرًا للدولة الحديثة.
و من أبرز محطات هذه المرحلة أيضًا تأسيس المسجد، ليس فقط كبيت للعبادة، بل كمركز للتعليم، و التشاور السياسي و التنظيم الاجتماعي. كما أرسى النبي ﷺ مبدأ المؤاخاة بين المهاجرين و الأنصار، فأزال بذلك الحواجز الاجتماعية و الاقتصادية، و أحلّ روح التعاون و التكافل مكان التمييز و التفرقة. لقد كانت تلك المرحلة درسًا عظيمًا في أن المجتمعات القوية لا تُبنى بالدماء أو العصبيات، بل تُبنى على الحب، و العدل و المصير المشترك.
إن الهجرة بمعناها العميق، لا تعني فقط الرحيل عن أرض، بل تعني التخلي عن الأنانية و الخروج من ضيق المصالح الشخصية إلى سعة المصلحة العامة. لقد هاجر الصحابة تاركين وراءهم أموالهم و منازلهم من أجل مبدأ، من أجل بناء دولة تحترم الإنسان، و تُقيم العدل و ترفع قيمة العمل و المشاركة. هذا النموذج في التحول الحضاري يقدم لنا نحن اليوم، في السودان درسًا بالغ الأهمية.
فالسودان الذي يمر بواحدة من أعقد مراحله، بات في أمسّ الحاجة إلى هجرة من نوع آخر، هجرة رمزية تنقلنا من صراعات المصالح الضيقة، إلى رحاب التوافق الوطني و المشروع المشترك. علينا أن ننتقل من الانقسامات القبلية و المناطقية إلى دولة المواطنة، و من اقتسام الوزارات و المناصب بين القوى السياسية إلى بناء مؤسسات وطنية حقيقية تنهض على الكفاءة لا الولاء. علينا أن نتفق على البناء لا على الهدم، و أن نتخلى عن عقلية المحاصصة و الغنائم، و نؤسس لمرحلة جديدة يكون فيها الوطن هو الأولوية و يكون فيها المواطن شريكًا لا تابعًا.
إن الهجرة النبوية تلهمنا بأن التحول ممكن إذا توفرت الإرادة الصادقة، و النية الجامعة و التجرد من الأنانية. فلنجعل من ذكرى الهجرة مشروعًا حيًّا نستلهمه في حاضرنا، نبني به السودان الجديد الذي يتسع للجميع، ويستند إلى العدل، و الحرية، و الكرامة الإنسانية و يحتضن كل أبنائه على اختلاف مشاربهم و أفكارهم.
و من هنا، نوجه نداءً صادقًا إلى كل أبناء السودان، في الداخل و الشتات: حان الآن وقت البناء، لا التنازع. آن أوان الوحدة، لا الانقسام. فلنتحد كما اتحد المهاجرون و الأنصار، و لنؤسس معًا دولة مدنية حديثة، تحترم الحقوق و تنهض على القانون و المواطنة.
لقد آن الأوان لأن نبني اقتصادًا يقوم على مواردنا الذاتية، لا على المعونات المشروطة. فالسودان غني بأرضه، و مياهه، و موارده و سواعد أبنائه. لن ننهض إلا إذا اعتمدنا على أنفسنا، و حققنا الاكتفاء الذاتي في الغذاء، و الدواء و الطاقة. هذا هو درب الحرية الحقيقية و درب السيادة الوطنية.
فلنجعل من الهجرة النبوية منارة نهتدي بها، و وقودًا نغذي به مشروعنا الوطني، و نكتب به فصلًا جديدًا في تاريخ السودان، يكون عنوانه: وطن يبنيه الجميع و يحتضن الجميع.