دوافع روسيا لاستخدام “الفيتو” وأثر ذلك على مستقبل العملية السياسية في السودان … وجه الحقيقة .. بقلم/ إبراهيم شقلاوي
استخدمت روسيا أول أمس حق النقض “الفيتو” في مجلس الأمن الدولي ضد مشروع قرار بريطاني كان يستهدف انتقاص السيادة السودانية عبر فرض قيود على الحكومة السودانية في ظل الأزمة الراهنة في البلاد. هذا الموقف الذي أثار ارتياحاً واسعاً في الشارع السوداني و سخطاً كبيراً وسط أنصار تنسيقية القوى المدنية” تقدم” فتح المجال لتساؤلات حول دوافع روسيا السياسية و الأمنية وراء هذه الخطوة و أثرها علي العملية السياسية في السودان. إذ يعتبر استخدام روسيا للفيتو لصالح السودان تحولاً دبلوماسياً عظيماً يعكس تغييراً في استراتيجيتها في المنطقة، و له تأثيرات عميقة على العلاقات السودانية الروسية. في هذا المقال نستعرض هذه الفكرة بشيء من التحليل حتى نضع الجميع في قلب هذا التطور المهم.
أولاً لا بد أن نتحدث عن طبيعة مشروع القرار البريطاني و المحاولات البريطانية التي ظلت تبذلها بإيعاز من تنسيقية القوى المدنية “تقدم ” بقيادة (عبد الله حمدوك) للضغط على السودان، و في ذلك يجب أن لا ننسي اتهام عدد من المراقبين ل(تقدم) بإشعال هذه الحرب بعد مساندة مكشوفة لانقلاب الدعم السريع في منتصف أبريل من العام الماضي.
بدأ مجلس الأمن الدولي في مناقشة مشروع القرار بشأن السودان، و يهدف إلى فرض عقوبات على الحكومة السودانية و تحميلها المسؤولية عن انتهاكات حقوق الإنسان، إلى جانب دعوة مبطنة لدخول قوات دولية لوقف النزاع الدائر في البلاد. القرار كان يساوي بين الجيش السوداني و ميليشيات الدعم السريع، و يشترط وقف إطلاق النار مع الحفاظ على المواقع التي تحت سيطرة كل طرف. كان الهدف من هذه الإجراءات ،وفقاً لمجلس الأمن، الضغط على السلطات السودانية لإجبارها على قبول وقف إطلاق النار و الانخراط في حوار مع المليشيا.
و رغم محاولات بريطانيا و الولايات المتحدة تمرير المشروع، واجه القرار مقاومة شرسة من عدة دول أعضاء في مجلس الأمن. دفع هذا المندوب الفرنسي إلى طلب مشاورات مغلقة لتسوية الخلافات حول المسودة. و مع تعثّر المفاوضات قررت روسيا استخدام حق النقض “الفيتو” و هو ما اعتُبر دعماً قوياً للسودان ضد التدخلات الخارجية.
هذا” الفيتو ” شكل دعماً كبيراً للسودان، و رسالة للعالم بأن الصداقة البعيدة عن الأطماع دائماً منتجة لأنها تقوم علي الثقة بين الأطراف، لذلك لم يكن مجرد موقفاً دبلوماسياً اعتيادياً بل حمل رسالة قوية على عدة مستويات. من الناحية السياسية أظهرت روسيا دعمها للسيادة السودانية ضد محاولات فرض إرادة خارجية على البلاد، كما أن الموقف الروسي يعكس اعتراض موسكو على التدخلات الغربية التي تستهدف تقويض الأنظمة الوطنية في المنطقة كما أن هذا “الفيتو” يُعد جزءاً من استراتيجية موسكو الأوسع لتعزيز نفوذها في إفريقيا و مواجهة الضغوط الغربية التي تسعى لإعادة تشكيل المنطقة وفقاً لمصالحها.
و من الناحية الأمنية، يعتبر السودان نقطة ارتكاز جيواستراتيجية مهمة في منطقة البحر الأحمر التي تشهد صراعات مستمرة على خلفية مصالح القوى الكبرى. هذا الموقع الجغرافي المميز ، بالإضافة إلى الثروات الطبيعية الهائلة في السودان يجعل من السودان سوقاً واعداً للعديد من الاستثمارات الروسية في قطاعات الطاقة و التعدين. دعم روسيا للسودان يمنحها دوراً مهماً في مستقبل الأمن الإقليمي و مواجهة التمدد الغربي في المنطقة.
بعد التصويت الروسي ضد المشروع البريطاني عبّرت الحكومة السودانية عن شكرها العميق لموسكو ، حيث رحبت وزارة الخارجية السودانية باستخدام روسيا لحق النقض في مجلس الأمن، معتبرة أن هذا الموقف يعكس التزام موسكو بمبادئ العدالة و احترام سيادة الدول، و أشادت أيضاً بموقف روسيا الذي يرفض فرض الوصاية على الشعب السوداني عبر آليات دولية مؤكدة أن هذا (الفيتو) يمثل دعماً لاستقلال البلاد و وحدتها.
هذا الموقف الروسي أيضا يعزز من موقف الحكومة السودانية على الساحة الدولية، و يوفر لها متنفساً في مواجهة الضغط الدولي، كما أن هذا الفيتو يعكس تحولاً في الديناميكيات السياسية حيث تتجه السودان إلى بناء تحالفات جديدة بعيداً عن النفوذ الغربي مع تعزيز التعاون مع روسيا في المستقبل.
كذلك من المهم حسب مراقبين أن ننظر لهذا التحول في العقيدة الروسية في استراتيجيتها الدبلوماسية، خاصة إذا ما قُورنت بعقيدتها التقليدية في استخدام (الفيتو)؛ منذ أيام الاتحاد السوفيتي كان (الفيتو) يُستخدم في المقام الأول لحماية مصالح روسيا و دول الاتحاد السوفيتي السابق، لكن الفيتو ضد القرار البريطاني بشأن السودان يعكس تحولاً في السياسة الروسية تجاه القضايا الإفريقية لذلك يرى كثير من المراقبين أن روسيا سعت بذلك لتعزيز مكانتها في إفريقيا من خلال تقديم نفسها كحليف قوي ضد محاولات الهيمنة الغربية، و هذا يتماشى مع رؤية موسكو التي تسعى لتوسيع نفوذها العسكري و الاقتصادي في القارة و بالتالي فهي تدرك أن دعمها للسودان في هذا السياق قد يُفضي إلى تعزيز علاقاتها مع دول أخرى في المنطقة.
بناءً على ما تقدم، يبقى السؤال: هل سيكون (الفيتو) الروسي حاسماً في تحديد ملامح المرحلة المقبلة في السودان؟ الدعم الروسي يعزز موقف الحكومة السودانية أمام الضغوط الدولية، وقد يساهم في دفع عملية السلام رغم استمرار الصراع الداخلي. في حال التوصل إلى تسوية سياسية محتملة، قد تفتح هذه التطورات أبواباً جديدة للتعاون مع روسيا في مجالات إعادة الإعمار، و تطوير البنية التحتية و تعزيز التعاون العسكري و التجاري.
كذلك يشير عدد من المراقبين أن هذا الإجراء الروسي ربما يضع السودان ضمن التحولات الدولية و “الحرب الباردة” الجديدة، من اللافت أن هناك بعض المراقبين الذين يشيرون إلى أن موقف روسيا قد يكون جزء من تحركات أوسع على الساحة الدولية خاصة مع التغيّرات في الإدارة الأمريكية. بعض المصادر تشير إلى وجود تفاهمات بين الرئيس الأمريكي المنتخب (دونالد ترامب) و الرئيس الروسي (فلاديمير بوتين) حول كيفية التعامل مع السودان، و هذا قد يغير بشكل كبير مسار السياسة الخارجية الأمريكية تجاه السودان بعد استلام إدارة (ترامب) الجديدة مقاليد الأمور في الولايات المتحدة الأمريكية في يناير القادم.
بالمقابل، تظل بريطانيا في موقف صعب خاصة مع دعمها للمليشيات المسلحة في السودان، و هو ما يجعلها شريكاً أساسياً في تأجيج الصراع و ربما متواطئاً في إرسال السلاح عبر حلفائها الإقليميين الذين أشعلوا هذه الحرب، و على الرغم من الضغوطات الدولية فإن روسيا استطاعت أن تفرض نفسها كحليف استراتيجي للسودان مما يفتح الباب أمام تحولات جديدة في السياسة السودانية و العلاقات الدولية في المنطقة. عليه وب حسب ما نراه من وجه الحقيقة يمكن القول أن (الفيتو) الروسي ضد المشروع البريطاني في مجلس الأمن يمثل نقطة تحول حاسمة في السياسة الدولية تجاه السودان. و أن الموقف الروسي لا يعكس فقط دعماً للسودان في وقت الأزمات، بل يفتح آفاقاً جديدة للتعاون بين البلدين في المستقبل سواء في المجال الاقتصادي أو العسكري. في الوقت نفسه، قد يساعد هذا الموقف في تمهيد الطريق للتوصل إلى حلول سياسية تضمن استعادة الأمن و الاستقرار في السودان، بينما يعزز من مكانة روسيا كقوة مؤثرة في إفريقيا.
دمتم بخير و عافية.
الأربعاء 20 نوفمبر 2024م.
Shglawi55@gmail.com