عودة الحياة إلى القاعات الجامعية: استئناف الدراسة رغم الجراح العميقة (١-٢) .. (من ملفات أصل_القضية) .. تحقيق/ محمد أحمد أبوبكر .. باحث بمركز الخبراء العرب

“قاعات بلا صوت… جامعات بلا وطن”
في باحة جامعة النيلين، حيث كانت المنابر تفيض بالحوار، و حيث تعلّق الطلبة يوماً على الجدران منشورات الفكر و المطالبة بالحقوق…
لافتة محروقة، أبواب محطّمة، نوافذ بعين واحدة تنظر إلى الفراغ.
مكتبة جامعة الخرطوم، التي كانت قبلة الباحثين… نُهبت، تمزّقت و علت فوق رفوفها طبقات الغبار بدل المعرفة.
تجولت الأحذية العسكرية فوق ما تبقّى من كرامة المكان بينما سقطت بقايا أوراق بحثية في زاوية تُبكي الجدران و لا يسمعها أحد.
في جامعة السودان، أصبح معمل الهندسة الكهربائية مستودعًا للذخيرة، و صدى الانفجارات حلّ محل صوت المُحاضِر، أما المعامل التي كانت تستولد المعرفة، فقد استُخدمت لتفكيك مستقبل أمة!
كراسات الطلاب تركت فوق المقاعد، كأنها تصرخ “كنا هنا”…
و السبورات مكتوب عليها آخر ما نُسي من الأحلام:
“اختبار منتصف الفصل – أبريل 2023”
لكن لا أحد أتى.
خريطة التعليم العالي في السودان لم تكن مُعلّقة على جدار… بل كانت على كفّ المعركة.
و وسط هذا الخراب المدجج بالتاريخ والخيبة…
جاء القرار:
“عودة الجامعات السودانية إلى العمل”
قرار واحد… هزّ الصمت، لكنه لم يُنهِ الأسئلة.
هل هذه العودة خطوة نحو التعافي الأكاديمي الحقيقي؟
أم أنها مجرّد حبة مُسكّن تحت ضغوط الرأي العام، وصرخات الآباء والطلاب والمجتمع الذي يخشى على عقله كما يخشى على أرضه؟
حين يعلو صوت الحكماء على ضجيج العدم…*
حين يعلو صوت الحكماء على ضجيج العدم، ويضيق الأفق بما حملت الأيام من ألمٍ وخراب… يخرج من بين الركام صوتٌ لا يساوم على المعنى، ولا ينحني لعاصفة.
بروفيسور (علي يونس بريمة)، مدير جامعة الضعين، وأحد أعمدة التعليم العالي في السودان، لم يُعرف بالمناصب، بل بالمواقف. لم يأتِ إلى الإدارة من برجٍ عاجي، بل من قلب الميدان، حاملاً همّ الجامعة والوطن على كتفيه،،،،
حديثه لا يشبه إفادات المسؤولين، بل يشبه الوطن حين يبوح.
وحين يُسأل عن عودة الجامعات، لا يجامل ولا يتهرّب، بل يتحدث بثقة من يعرف الثمن.
جاءت افادته …
“اخترنا أن نُعيد فتح أبواب الأمل… لا أن ننتظر زوال العاصفة”
في بلدٍ تتقاطع فيه النيران وتتكسر فوقه الأحلام، وقفنا كجامعة، لا لنرثي حال التعليم، بل لنُحييه…
فالعودة إلى القاعات ليست رفاهًا، بل مقاومة… و ليست روتينًا، بل موقفًا وطنيًا.
أول الطريق: قرار العودة رغم الجراح
“قرار استئناف الدراسة لم يكن إداريًا فحسب… بل كان بيانًا وطنيًا بأن السودان ما زال حيًا بإرادة شبابه”.
أنشأنا مراكز جامعية آمنة في أم درمان وكوستي، بالتنسيق مع جامعات عريقة.
فعّلنا نماذج التعليم المدمج حيثما تعذّر الحضور، وجعلنا من التقنية جسرًا بين الطالب والجامعة.
أُقيمت امتحانات كلية الطب في موعدها، والكلية تستعد لاستقبال طلاب الشهادة المؤجلة.
من الألم إلى الأمل: إصلاح ما تهدّم
رغم الدمار الجزئي لبعض المنشآت وتوقف الصيانة، رسمنا خارطة لإعادة التأهيل، وفق ترتيب أولويات ذكي:
* مختبرات ومعامل تم إعادة تشغيلها بأقل الإمكانات.
* مشروع واعد مع منصة كلاسيرا لتأسيس نظام رقمي دائم لجامعة الضعين.
* جهود ذاتية، ودعوات مفتوحة للشراكات الوطنية والدولية.
“نحن لا ننتظر الدولة فقط… نحن نعيد بناءها من حيث نقف”.
في قلب المعركة: الإنسان أولاً
* فرق متخصصة لحصر الأساتذة والطلاب في مناطق النزوح والتشظي.
* استراتيجيات دعم نفسي، وتواصل مجتمعي يعيد للطالب شعوره بالانتماء.
* تزايد ملحوظ في نسب العودة – ليس فقط بالأرقام، بل بالروح
التحدي الأكبر: التمويل في زمن الانكماش
* الميزانيات تقلّصت، والدعم توقف، لكننا:
* قدمنا مقترحات تنفيذية لوزارة التعليم العالي.
* نفّذنا برامج موجهة للمجتمع لجذب التمويل من الأرض التي نعمل فيها.
* بنينا خط دفاع اقتصادي من شراكات مدروسة ومبادرات داخلية.
الجامعة والمجتمع: عقد غير مكتوب
* “في شرق دارفور، لا يمكن للجامعة أن تكون جُزُرًا منعزلة عن محيطها”.
* نفذنا حملات توعية صحية، وبرامج تدريبية للمعلمين، ودعمًا مباشرًا للمجتمعات المستضيفة.
* أساتذتنا كانوا أحيانًا أساتذة… وأحيانًا مرشدين… وأحيانًا مسعفين.
رؤيتنا: لا نُعيد ما كان… بل نبني ما ينبغي أن يكون
“لسنا نُرمم الجامعة القديمة، بل نُصمّم جامعة ما بعد الحرب:
مرنة، رقمية، متكاملة مع مجتمعها… جامعة تشبه آمال هذا الجيل”.
ثلاثية رؤيتنا:
١. التعليم المقاوم.
٢. الشراكات الفاعلة.
٣. خدمة المجتمع.
النداء لكل سوداني: لا تنتظر النعيم لنبني التعليم
> “رسالتي إلى صناع القرار:
أعيدوا ترتيب الأولويات، فالتعليم ليس بندًا في الميزانية… بل هو البند الأول في مستقبل السودان”.
> “رسالتي للطلاب وأولياء الأمور:
عودوا… فالجامعة ليست مقعدًا و محاضرة، بل وطن صغير نتعلم فيه كيف نعيد بناء الوطن الكبير.”
جامعة الضعين… جامعة تستأنف رغم الحرب، و تُؤسّس رغم الخراب و تُلهِم رغم العجز
“من بحري إلى أم درمان… طلاب الزعيم بين الرماد والأمل”:
بعد أن تحوّلت قاعات جامعة الزعيم الأزهري في بحري إلى أطلال، و نهبت المعامل والمكتبة، و انطفأت أنوار العلم تحت ركام الحرب، لم يستسلم طلابها.
في مشهد استثنائي، حملوا كراساتهم وماتبقى من أحلامهم إلى أم درمان، حيث فُتحت لهم مراكز بديلة أبرزها كلية التربية.
هناك، وسط الضيق والذكريات المكسورة، جلسوا للامتحانات.
لم يكن الهدف مجرد درجات… بل إثبات أن الجامعات لا تموت.
و هنا… شهادات حية من طلابٍ قرروا أن لا يغيبوا عن موعدهم مع المستقبل، حتى لو تغير المكان و تبددت المعالم.
١. عمر عبد السلام – سنة تانية تربية:
> “والله يا أستاذ، نحنا جينا من بعيد شديد، من ظروف صعبة ومن مناطق الواحد ما متأكد فيها من بكرة. بس قلنا لازم نكمل، لازم نجي نمتحن. ما ممكن نخلي الحرب توقف حلمنا. الكلية في أم درمان فتحت لينا الباب، والحمد لله قدرنا نمتحن، رغم التعب والخوف وعدم الاستقرار.”
٢. مروة حسن – سنة تالتة قسم أحياء:
“أكتر حاجة وجعتني إني ما قدرت أراجع كويس، لا كتب لا نت لا مكان هادي. لكن برغم كده، كان عندي إصرار. أنا دايرة أتخرج، دايرة أفرّح أهلي، دايرة أقول للظروف: (ما قدرتوا عليّ). لما مشيت أم درمان حسّيت إني راجعة للحياة.”
٣. أسامة محمد – خريج دفعة الحرب:
“أنا أصلاً كنت فاقد الأمل، لمن سمعت إنو في فرصة نمتحن في أم درمان حسّيت كأنو في بصيص نور. مشيت، لقيت زملاء في نفس وضعي، و تكاتفنا، شجعنا بعض. يمكن ما أدينا أفضل ما عندنا، لكن وجودنا في القاعة ذاتو كان إنجاز كبير.”
٤. إيمان عبد الرازق – سنة أولى لغة عربية:
“أنا أصلاً نازحة من بحري، و كنت مفكرة الجامعة خلاص راحت مننا. لمن قالوا لينا أم درمان فاتحة، بكيت من الفرح. ما ساهل تمشي تمتحن و أهلك في معسكر نزوح، لكن نحنا دايرين نغيّر مصيرنا بالعلم.”
٥. عبد الرحمن النذير – سنة تالتة تاريخ:
“الورق والمقرر حاجات، والحرب حاجة تانية خالص. لكن الواحد لما شاف زملاؤه لسه متمسكين بالحلم، قال لازم أكون معاهم. حتى لو ما جبت امتياز، كفاية إني كنت جزء من الدفعة البتقاوم بالمسترة والكرّاسة.”
٦. تسابيح ميرغني – خريجة قسم تربية:
“كان نفسي ألبس روب التخرج، لكن الحاصل خلاني ألبس الحزن. مع كده، مشيت أمتحن، عشان أقول للزمن دا (لسه واقفين). التعليم ده سلاحنا الباقي، و لو في فرصة واحدة نكمل، نحنا قدّها.”
“عقول تضيء الطريق”
قدّم الطلاب امتحاناتهم في قاعاتٍ بديلة، على أنقاض أحلامٍ معلّقة… لكن الحقيقة أن معركة التعليم لم تكن يوماً امتحاناً من ورقة وقلم، بل امتحاناً لإرادة أمة.
سنواصل ما بدأناه…
لكن هذه المرة، سنرتقي إلى منصة الفكر، ونستمع لأصواتٍ لا تخشى الصدع بالحقيقة.
من جامعة أم درمان الإسلامية، إلى وادي النيل، و من مركز البحوث و الدراسات الاستراتيجية…
أساتذةٌ حملوا على عاتقهم قضايا التعليم في زمن السقوط، و أفكارهم اليوم لا تصف الواقع فحسب، بل تُضيء ما تبقّى من الطريق.
فهل تملك الدولة ما يكفي من الرؤية؟
و هل تقوى الجامعات على النهوض إن ظلّ القرار معلّقاً بين الأمنيات و الواقع؟
في الحلقة القادمة…
سنحفر في العمق، ونعرض إفاداتٍ ليست كغيرها، لأن من يدلون بها… هم من بقية “الحُرّاس” على بوابة التعليم العالي و البحث العلمي في السودان.
إلى هناك… حيث الحديث يصبح موقفاً، و المعرفة مقاومة.