غزة ماذا مضى؟ وماذا بقي؟ .. بقلم/ د. حاتم عبد العظيم أبو الحسب .. أستاذ الفقه الإسلامي وأصوله

أكثر من عام ونصف مرت على المواجهة في غزة بدءا من يوم 7 أكتوبر الذي شهد فعلا معقدا ومخالفا لتوقعات الجميع عنوانه الكبير أنه أهان الكبرياء الصهيوني على الملأ حتى وإن لم يحقق كامل أهدافه التي كان يتأملها وتلك قصة أخرى تنطوي على كثير من الآلام ليس أقلها خذلان الأشقاء والجيران والحلفاء ولا آخرها تشديد الحصار وغلق المعابر وإعانة العدو على قهر الشقيق
بيد أن الحدث في ذاته فرض على الصهاينة معادلة معقدة اختار فيها نتنياهو أن يذهب إلى حافة الهاوية بحثا عن ردع يعيد للجيش الذي لا يقهر اعتباره ويعيد رسم الخرائط ويستغل الفرصة لفرض واقع جديد وتحقيق صورة نصر يرضي غرور اليمين التلمودي
ويمكن القول: إن أهداف نتنياهو تركزت على استهداف قيادات المقاومة وقدراتها، وصولا إلى إنهاء وجودها، والقضاء على محور إيران، واستهداف القيادات الشعبية والمدنية في غزة، وتدمير مقومات الحياة بكافة أشكالها، والضغط بكل أنواع الأسلحة والذخائر الغربية على قطاع مدني مكتظ بالسكان، وقتل أكبر عدد ممكن من أبنائه ليقبلوا في الأخير مخطط التهجير ومن ثم احتلال القطاع!
ولعل نتنياهو أراد أن يظهر بصورة دموية لا يسعى إلى سترها أو إخفائها عساها تعيد شيئا من الهيبة إلى الصورة التي اهتزت كثيرا لدولته وجيشه.
وقد رأى نتنياهو في جعبته عوامل قوة إضافية تتمثل في الدعم الغربي غير المشروط و الخذلان العربي غير المسبوق؛ فأمريكا بايدن أو ترامب والخطاب الرسمي للساسة الغربيين كان منحازا للرواية الإسرائيلية على طول الخط، في حين اكتفت القيادات العربية بتحميل حماس مسؤولية ما يجري وقامت بالتنسيق سرا وجهرا مع نتنياهو، وهو ما أعطاه حافزا إضافيا للذهاب إلى آخر الشوط.
وفي سياق بيان ما مضى أيضا يمكن القول: إن المقاومة ولا شك فقدت كثيرا من قدراتها البشرية والعسكرية لكنها ما زالت قابضة على الزناد وقادرة على إيلام العدو، كما أنه لم يحدث لها الانهيار الذي توقعه خصومها الإقليميون والدوليون، ولم تنفصل عنها حاضنتها الشعبية إلا بمقدار ما يمليه الألم الجنوني من انفعلات مفهومة وصرخات ألم مكلومة.
وعلى مدار عام ونصف يمكن القول إن نتنياهو قد نجح في اغتيال صفوة القادة في صفوف المقاومة، ونجح في تدمير القطاع ونجح في قتل عشرات الآلاف من المدنيين…. لكن هذه الجرائم لا تكفي وحدها لتقييم المشهد تقييما موضوعيا
فقد طرأت على المشهد متغيرات كثيرة فلم تعد الأمور كما كانت في شهور الحرب الأولى
فلأول مرة تتضرر السردية الإسرائيلية على المستوى الشعبي في معظم المجتمعات الغربية وسقوط السردية وافتقاد الظهير الشعبي العالمي أخطر على المشروع الصهيوني كثيرا من ربح معركة أو خسارتها؛ لأنه بمثابة خسارة استراتيجية فادحة لواحد من أهم عناصر بقاء الكيان الصهيوني الذي لا بقاء له إلا بحبل من الناس.
كذلك تزداد الفجوة بجلاء بين مكونات ذلك المجتمع الذي جاء إلى أرض الميعاد ليعيش في جنة الدنيا لا ليرى بعينيه جحيم الآخرة، ولعلنا أمام لحظة قياسية لرؤية مصداق قول الله عز وجل :” تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى”
ولا يمكن إدراك حجم الضرر الذي حدث لبنية المجتمع الإسرائيلي إلا بعد توقف القتال.
ويمكن القول كذلك إن نتنياهو قد وقع أو أوقع نفسه بين شقي رحى: إما استمرار الحرب الذي يستنزف سمعة إسرائيل واقتصادها وتماسكها الاجتماعي وأما التوقف الذي يعني سقوطه شخصيا مصحوبا بإفلاس سياسي وعسكري لدولة الكيان
وقد لا يملك نتنياهو الآن خيارا إلا محاولة الهروب إلى الأمام إما بضرب إيران وهو ما قد يجر العالم كله إلى حرب عالمية شاملة
وإما بافتعال مواجهة مع مصر يضرب بها عصفورين بحجر واحد فمنها تمتد الحرب وتتسع لتكون له رئة سياسية يتنفس منها ويضمن مزيدا من البقاء كما أن ذلك يصب في صالح مشروع التهجير الذي يجد فيه الرجل فرصة مواتية لإنجاز مشروعه التلمودي وملاذا آمنا للهروب من عواقب الفشل الذي مني به في 7 أكتوبر
وعليه فإن قبول نتنياهو ضغوط ترامب بوقف الحرب لن يكون إلا مناورة يسعى من خلالها إلى استئنافها من جديد إما في غزة وإما في أرض جديدة هذه المرة
فتلك الأحداث التي بدأت شرارتها في السابع من أكتوبر لن تتوقف حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا