مقالات الرأي
أخر الأخبار

فلتكن انتقالية بحق(٢-٢) .. بقلم/ د. محمد حسن فضل الله

إن واحدة من القضايا المهمة التي تحرص عليها الدول و الأمم الخارجة من الأزمات و المحن و الحروب الأهلية هي إمعان النظر في الأسباب التي أدت لحدوث تلك المحنة أو الحرب، و ذلك بهدف إجراء عملية تشخيص للأزمة و من العمل بجد لمعالجة الأزمة بالحرص علي تفادي الأسباب و الدواعي من باب (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين).
و في حالتنا في السودان رضينا أم أبينا فقد كان الشعور بالغبن و التهميش حالة وطنية ماثلة علي طول تاريخنا الحديث من لدن الأستقلال وحتي يومنا هذا، بل و لكي أكون دقيقًا منذ المهدية فالمهدية ،و للحقيقة و بدون أي هتافات ولا عواطف، نجحت في البداية في تجميع القوى الوطنية من مختلف بقاع السودان و بمختلف قبائله و طوائفه، و بالتالي نجحت في حشد الزخم الوطني حولها حتي تسنى طرد الأستعمار التركي المصري، وكما ذكرت في المقال السابق فإن كل الأنظمة السياسية التي تعاقبت على حكم اللسودان كانت ترفع شعارات براقة و جذابة في يومها الأول، فتكون سببًا في نجاحها و التفاف الناس حولها، و لكن سرعان ما تتنكر تلك الأنظمة لذات الشعارات وتنقلب عليها فتكون سببًا في سقوطها وخروج الناس عليها والمهدية أصدق مثال لذلك فبالرغم من نجاح الإمام المهدي في توحيد الوطن، و نجح في تحريره من الاستعمار، إلا أنه و بعد وفاة المهدي، وجاء الخليفة عبدالله تبدلت الأحوال، و بدأت الصراعات، و دخلت البلاد في موجة عارمة من الاقتتال بسبب الحملات التي كان يقوم بها الجهادية في القرى والأرياف في مختلف بقاع السودان فضرب أقوي أسفين علي جسم الرباط الوطني فتصدع و تفتت الوحدة الوطنية فكثرت محاولات التمرد هنا وهناك علي الخليفة نبي هناك ومهدي منتظر ه، وغلب على معظم حركات التمرد صفة أن قادتها ادعوا النبوة أو المهدوية، و تمردت الطرق الصوفية وحتي أهل المهدي تعرضوا للتنكيل فسقطت البلاد لقمة سائغة في يد الاستعمار البريطاني. و قضية الجنوب كانت أوضح و أبشع صورة للتعبير عن الغبن والتهميش، فأذكر أنني اطلعت علي وثيقة ذات مرة في أحدي اللصحف تتحدث عن أن أول قرار أصدرته حكومة الزعيم إسماعيل الأزهري عام ١٩٥٤ أن شكلت لجنة برئاسة السيد (أحمد المهدي) والذي كان حينها وزيرًا للداخلية أو الحكم المحلي لا أذكر، وكلفت اللجنة بصياغة رد الحكومة علي مطالب الجنوبيين والبجا وجنوب كردفان والنيل الأزرق ( أتذكرون موضوع المناطق الثلاث الذي ظل هاجسًا يؤرق مضاجعنا الوطنية و يزعج حكوماتنا الوطنية) نعم والله كان هذا أول قرار أصدرته أول حكومة انتقالية في تاريخ السودان، والأدهى و الأمر فلقد كانت مطالب الجنوبيين علي سبيل المثال أن تكون الوظائف من درجة ضابط مركز فما دون في الإقليم الجنوبي من الجنوبيين، نعم والله لقد كان هذا هو مطلبهم ولكن للأسف فإن اللجنة وببسبب قصر النظر وضيق الأفق وانسداد الوعي كان قرارها رفض كل تلك المطالب فاندلعت أحداث ٥٤ في توريت كأول تعبير عنيف عن الشعور بالغبن، ودارت العجلة إلي تطورت المطالب لتصل مستوى نائب أول لرئيس الجممهورية ويشارك الرئيس بالفيتو في كل القرارات الهامة ومشاركة في الحكومة المركزية ب ٣٣% للقوي الجنوبية ولم يقتصر دفعنا للثمن الباهظ بسبب الغباء السياسي علي ذلك بل وصل الشعور بالغبن إلي درجة الانفصال لتقوم دولة كاملة على أرض الجنوب ….
الآن دخلت بلادنا والتي عانت خلال الستين عامًا الماضية من تعدد حركات التمرد المسلح و محاولات أخذ الحقوق بالقوة و أزهقت ملايين الأرواح و أهدرت الطاقات التي كان يمكن أن توجه للتنمية في ذات المناطق، و لكنها صرفت في المجهود الحربي و هنا لا بد من الإشارة أن هذا السلوك لم ينج منه أي نظام سياسي، فكل الحكومات السودانية سلكت ذات المسلك في مواجهة حركات التعبير عن الغبن بالقوة والبطش بدلًا من الحوار والمجادلة بالحسنى، أقول دخلت بلادنا في حرب وصفها العالم بأنها الأسوأ علي الإطلاق، و لست في حاجة للحديث عنها لأنها ليست تاريخ يروي بل هي أحداث معاشة حتي يومنا هذا …
وللأسف فلا زال البعض ينكر و يستنكر أي حديث عن الغبن و التهميش بالرغم من أنه واقع معاش وتسبب في ألا ننعم بنعمة الاستقلال، فظللنا نعيش في دوامة حروب لأكثر من ستين عامًا بل والأعجب أن هناك بعض الأصوات التي تحاول ليّ عنق الحقيقة لتقول أن هذه الدعوات ما هي إلا تدخلات أجنبية لاستهداف بلادنا.
يا إخوتي، الشعور بالغبن حالة عامة و هي نوع من أنواع المشاعر التي يصعب إنكارها أو تجاوزها لأنها و في أبسط الحالات يمكن أن تكون عبارة عن حالة نفسية عند من يشعر بالغبن، و إذا لم تعالج تتطور و تتحول لحالة عدائية و لو مفتعلة و لكنها مضرة.
فلا يمكن أن ننكر أن مؤتمر البجا و نهضة دارفور علي سبيل المثال نشأت في الخمسينات وأحداث بابنوسة في الستينات، و بالمناسبة الأحداث التي أعقبت موت جون قرنق في الخرطوم حدثت قبل ذلك عندما انطلقت أشاعة موت كلمنت أمبورو و تمرد وأحداث دارفور بين الفور و العرب كانت في عهد حكومة ديمقراطية منتخبة في الفترة التي أعقبت انتفاضة أبريل، و تمرد (داؤود يحيي بولاد) في مطلع التسعينات، و (يوسف كوة) و (دريج) و (الأسود الحرة) كل ذلك مفتعل ؟؟؟ وكل ذلك عمالة ؟؟؟ و كل ذلك استهداف خارجي؟؟؟.
و لذلك، و حتي تكون الفترة الانتقالية انتقالا إلى الأحسن والأفضل، و إلى سودان جديد مختلف عن السودان القديم …حتي تكون الفترة الانتقالية فترة لنقد الذات و لقول الحق ولو علي أنفسنا، نتعامل فيها بمنتهى الجدية ندرس و نشخص و نضع الحلول المسؤولة، و في مقدمة هذه الحلول العمل علي إزالة كل مشاعر الغبن التي يشعر بها جملة من ابناء الوطن شرقًا و غربًا و شمالًا و جنوبًا، (بالمناسبة من منا شعر بالمعاناة النفسية التي شعر بها أهل حلفا القديمة و هم يتركون ديارهم إلي خشم القربة و من منا استشعر الغبن الذي انتاب المناصير و هم يرحلون بغض النظر عن الدواعي و الأسباب )
إن أولى الخطوات التي يجب أن نفكر فيها ان يكون عندنا دستور دائم نستلهم فيه تجارب الدول التي جنبت نفسها ويلات الانفصال و التمرد، و صاغت دساتير عالجت من خلالها مشاكل التنوع العرقي والديني و الجهوي، و وفرت نظم للحكم ترضي طموح الجميع وتعمق الشعور القومي و ترسخ الوحدة الوطنية، و الأمثلة كثيرة فالهند و ماليزيا و تنزانيا وغيرها من الدول يمكن أن تكون أمثلة و نماذج تستحق الاقتداء بها، و دعوني أكون عمليًا و مباشرًا
لأقول هل في الإمكان أن نصيغ دستورًا نؤسس به دولة اتحادية بمعني الكلمة، دولة اتحادية حقيقية تتكون من ستة أقاليم هي الشرق بولاياته الثلاث، و الشمال بولايتيه الاثنتين، و دارفور و ولاياتها الخمس، و كردفان و ولاياتها الثلاث و الأوسط و ولاياته الأربعة و الخرطوم بولاياته الثلاث بحري و أم درمان و الخرطوم، ثم نعتمد نظام حكم برلماني يتكون من مجلس سيادة مشكل من ستة أشخاص، كل منهم يمثل إقليمًا من هذه الأقاليم الستة، علي أن يكون للمجلس رئيس بالتناوب سنويًا كل عام أحد الأعضاء و بذلك يشعر كل السودانيين وفي كل الأقاليم بالرضا لأنهم مشاركون في حكم البلاد، و يمكن أن يتم اختيار المناديب الستة من قبل الجماهير في أقاليمهم إما بالانتخاب المباشر أو عن طريق البرلمانات الإقليمية، و أن تكون السلطة التنفيذية القوية في يد رئيس وزراء منتخب من البرلمان و بسلطات واسعة، و يمكن أن يتشكل مجلس الوزراء من عدد محدود من الوزراء في حدود ١٥ وزير فقط ليكون كل منهم ممثلًا لولاية من الولايات ال ١٥ وباقي الولايات الثلاثة تعطي مواقع أخرى ترضي طموحهم أيضًا. بالطبع إن ما ورد هنا مجرد أفكار عامة و لكن يمكن للقانونيين أن يجودوا الصياغات القانونية بكثير من التفاصيل الضرورية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى