مقالات الرأي
أخر الأخبار

فلتكُن انتقالية بحق (١) .. بقلم/ د.محمد حسن فضل الله

هذا المقال رسالة خاصة أدسها في جيب رئيس الوزراء الانتقالي السيد البروفيسور كامل إدريس و هو بصدد قيادة الجهاز التنفيذي لفترة انتقالية غير معلومة الأمد ليحضر البلاد للانتخابات العامة التي ستؤدي افتراضًا لتشكيل نظام سياسي جديد و منتخب جماهيريًا، و هو الآن يُجري المشاورات لتشكيل حكومة إنتقالية تعينه علي المهمة أعلاه.
الناظر لتجارب الأمم التي تتعرض لمحن مثل التي تعرضنا لها يجد أنها تحرص علي الدخول في مراحل أو فترات إنتقالية محددة الأمد يكون الهدف منها محاولة الخروج من آثار تلك المحنة و العمل علي إزالة آثارها و من ثم الدخول في مرحلة تعافي ينصلح فيها الحال و تعمد الدولة إلى صياغة خطط و إستراتيجيات جديدة تقوم علي أساس الاستفادة من الأخطاء و الممارسات التي أدت لحدوث المحنة و الأمثلة في ذلك كثيرة، فذات يوم حدثني مسؤول روسي كبير و مقرب من دوائر اتخاذ القرار أنهم و بعد انهيار الاتحاد السوفيتي و قيام روسيا الفدرالية قرروا الانغلاق تمامًا و الابتعاد عن أي ارتباط بالعالم و لمدة زادت عن العشر سنوات ليبنوا بلادهم، و بالفعل بعد سنوات الانغلاق خرجوا إلي العالم كثاني أقوي دولة في العالم كما كانوا بمعني أنهم تمكنوا من تجاوز أزمة الأنهيار و التفكك الذي حدث للاتحاد السوفيتي و بنوا دولة قوية و راسخة، و لماذا نمضي بعيدًا فهناك تجربة أفريقية في رواندا التي مرت في منتصف تسعينات القرن الماضي بأسوأ كارثة إنسانية أودت بحياة مئات الآلاف، و لكنهم اليوم تمكنوا من تأسيس دولة جديدة متقدمة متطورة و تعتبر مثالًا واضًحا في كل مقاييس التميز، و النماء الاقتصادي، و السلم الاجتماعي و الوحدة الوطنية. ما أود قوله للسيد رئيس الوزراء الانتقالي أن يجعل من فترة تكليفه الانتقالية فترة انتقالية بمعني الكلمة …نعم فترة انتقالية بغض النظر عن مداها الزمني ليعمل علي أن ينتقل ببلادنا من فترة ماضية مليئة بالصراع و التجاذب، و ضعف الحس الوطني، و عدم وضوح الرؤية فيما يلي مقومات أمننا القومي و ضبابية في علاقاتنا الخارجية و انعدام الرؤية الإستراتيجية في كل شيء، في الاقتصاد، في العلاقات الخارجية، في التعليم، في شكل الدولة و نظام الحكم، و عدم استمتاعنا بدستور دائم، فترة ابتلينا فيها بتجربة حزبية معتلة لم تضع خدمة البلاد نصب أعينها، و لم تجتهد بما فيه الكفاية لإسعاد المواطن السوداني تجربة حزبية سيطر علي مقاليد القيادة فيها قلة من الناس دون الأكثرية من عضوية الحزب ظلوا (يكنكشون) و لعدة عقود، هذا بالإضافه إلى أحزاب البيوتات و الأسر و الطوائف. تجربة حزبية حرمت من تجديد الدماء و أبعدت الشباب عن مراكز القيادة، فأصيبت الأحزاب بالعقم السياسي، و قصر النظر وعدم التجديد، و بالتالي حرمت البلاد من خيرة أبنائها الذين تميزوا بالكفاءة في كل مجالات الحياة.
نتمني من سيادة الرئيس الوزراء أن يخرج البلاد من تلك التجربة المريرة إلي مرحلة جديدة مرحلة قوامها الأول و ركنها الركين أن تكون السيادة و النصيب الأوفر في تولي المناصب الوزارية للشباب من الجنسين، فلا يتولى الوزارة أي شخص زاد عمره عن خمسة و أربعين عامًا نعم خمسة و أربعين عامًا.
و ثانيًا: أن تعمد الحكومة لوضع خطط عملية مختصرة لا تزيد مدتها عن تسعين يومًا فقط، أي برامج تنفيذية ليس فيها كثير كلام و لا تنظير فقط أهداف محددة، و تتم مراجعة الخطة كل تسعين يومًا و من ثم توضع خطة للتسعين يوما التالية و هكذا …
و ثالثًا: عدم الأسغتعجال في تحقيق الأهداف، بل العمل بتروي و تأني و في ذلك يمكن أن يتم التركيز في كل تسعين يوم علي مجال أو مجالين فقط يتم التركيز عليهما فمثلًا يمكن أن ان يكون التركيز خلال التسعين يومًا الأولى في إزالة آثار الدمار و إصحاح البيئة و إعادة الأمور و الحياة إلى ماكانت عليه، و ليس في ذلك عيب أن تهتم الحكومة بموضوع النظافة و إصحاح البيئة لأن ذلك يمثل أهم الدواعي لتحفيز المواطنين للعودة، و مثال آخر أن تعمد الحكومة لإدارة حوار حقيقي و شعبي جماهيري في الجامعات ومراكز الشباب و الميادين العامة، حيث ينحصر الحضور علي الشباب من الجنسين، حوار مفتوح مع الشباب و ليس مع الأحزاب من أجل التفكير في صياغة المستقبل، و بالمناسبة فالشباب يمكن أن يكونوا أطباء، وصيادلة، و مهندسين، و قانونيين، و أساتذة جامعات، و بياطرة و معلمين، و مصرفيين، و زراعيين و رجال أعمال، و اقتصاديين و عمال مهرة، و بذلك تكون الحكومة قد أشركت في هذا الحوار المفتوح كل الأطياف و كل التخصصات، و لكنه سلوك جديد على المجتمع و يعطي الانطباع أن ثمة تغيير قد حدث، ثم يمضي هذا الحوار ليتمخض عن تتشكيل مجموعات عمل شبابية لكل مجال من المجالات لصياغة أفكار عامة و رؤى لمستقبل البلاد،و يقيني أن هؤلاء الشباب سيخرجون بأفكار عبقرية أفضل مليون مرة مما اعتادت أن تخرج به المكاتب السياسية و التنفيذية و القيادية للأحزاب، كما أنهم و من تجاربهم الثرة التي لا يعرفها الكبار يستطيعون أن يشخصوا الأزمة الوطنية و يحددوا لها العلاج الناجع.
رابعًا: لا بد أن تضع هذه الحكومة الانتقالية نصب عينيها ألا يعود السودان لما كان عليه قبل الحرب، فلا مجال البتة لعودة الأحزاب السياسية بشكلها القديم ولا مجال لعودة أولئك البشر الذين اعتادوا أن يأكلوا في كل الموائد، و ظلوا يتمتعون بالمناصب الوزارية في كل الأنظمة المتعاقبة، ولا مجال لاستمرار خطاب الكراهية و العداء السياسي و الاجتماعي و لا مجال البتة للتهاون فيما أمن البلاد فكل ذنب مغتفر إلا خيانة الأوطان.
خامسًا: نتمني من السيد رئيس الوزراء و حكومته الانتقالية الحرص علي إمعان النظر في الأسباب و الدواعي المنطقية التي كانت سببا في تعميق مشاعر الغبن و التي لم ينجُ منها أي جزء من أجزاء الوطن لا شمال، و لا غربه، و لا شرقه و لا جنوبه، و هنا راودتني لماذا لا نكرر تجربة تشكيل مجلس السيادة من ممثلين لأقاليم البلاد الستة، و أن توزع الحقائب الوزارية فيما عدا الدفاع و الداخلية و الخارجية علي الولايات ال١٨.
هذه مجرد شجون و خواطر جالت علي البال فوددتُ أن أهمس بها في أذن معالي السيد رئيس الوزراء ..لا للقدامى لا للقدامى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى