مدينة الصناعات القطنية المتخصصة “رؤية إستراتيجية جديدة بخبرات متراكمة” .. بقلم/ أحمد حسن الفادني

نأتي اليوم بموضوع جديد و قديم في آن واحد و شاغل كافة قطاعات الشعب السوداني و هو محصول القطن و القيمة المضافة و الميزة التنافسية له في الأسواق العالمية، و لكن برؤية استراتيجية تؤسس لاستدامة المحصول كقيمة نقدية عالية و خاصة أنه المحصول الوحيد الذي لا توجد به أي نفايات صناعية، و أي جزء منها يصلح لصناعة أخرى، و نحن طالما نقول و نردد دائما لم يكن القطن السوداني يومًا سلعة عادية في الأسواق العالمية، بل ظل لعقود طويلة أحد رموز الجودة و التميز، و عنوانًا للهوية الاقتصادية للبلاد،لكن تحولات السياسات الزراعية، و تراجع البنية التحتية و الانكماش في الاستثمارات أفقدته مكانته تدريجيًا.
اليوم يقف السودان أمام فرصة استراتيجية غير مسبوقة لاستعادة ريادتها القطنية، من خلال تأسيس مدينة صناعية متخصصة للقطن ترتكز على رؤية اقتصادية متكاملة، تبدأ من الحقل و تنتهي بالأسواق العالمية، مرورًا بكل حلقات القيمة المضافة، و نجملها في النقاط التالية:
أولًا: من الزراعة الحديثة إلى الاقتصاد الصناعي القطني: تشهد الزراعة العالمية تحولات متسارعة تقودها التكنولوجيا والرقمنة، وقد آن للسودان أن يتحوّل من زراعة القطن التقليدية إلى نماذج الزراعة الذكية عالية الإنتاجية. المدينة المقترحة يجب أن تكون مدعومة بمراكز للأبحاث و الإرشاد الزراعي، لتطوير إنتاجية الفدان، التي لا تتجاوز في المتوسط حاليا (2 قنطار/فدان)، بينما يمكن رفعها إلى أكثر من (6 قنطار/فدان) باستخدام تقاوي محسنة و أنظمة زراعية و ري حديثة.
و تبدأ هذه المدينة بإقامة مجمعات لفرز وتصنيف البذور، و مزارع نموذجية بمقاييس إنتاجية عالية، ترتبط بشبكات ري دائمة و آليات تعفير حديثة، ما يضمن منتجا أوليًا عالي الجودة يعزز القدرة التنافسية للصناعة downstream.
ثانيًا: البورصة و المجمعات الصناعية و بناء سلسلة القيمة الكاملة: لإضافة سوق تنافسي و شفاف، فإن إنشاء بورصة قطن وطنية سيكون حجر الأساس لتسعير القطن وفق العرض و الطلب، و جذب رؤوس الأموال و تسهيل العقود الآجلة و المشتقات. تتبع البورصة منطقيًا إقامة مجمعات متكاملة كالتالي:
– مجمع المحالج الحديثة (بآليات تنظيف و تجفيف و تعبئة عالية التقنية).
– مجمع الغزول الرفيعة و الخشنة (بتكنولوجيا صينية أو هندية أو تركية متقدمة).
– مجمع النسيج و التجهيز والطباعة (لإنتاج الأقمشة الجاهزة للتصدير أو التصنيع المحلي).
– مجمع الملبوسات الجاهزة (لتصنيع ملابس بجودة تصديرية).
– مجمع الزغب و التقاوي (لإعادة إنتاج البذور و تحسينها).
– مجمع الزيوت النباتية (من بذور القطن كمصدر للبروتين والزيوت و الأعلاف ).
– مجمع صناعة الأخشاب والورق (من السيقان ومخلفات الزراعة).
إن هذا التكامل الصناعي يضمن تحقيق قيمة مضافة تصل إلى 600% مقارنة بتصدير القطن الخام، بحسب تقديرات البنك الدولي في تجارب مشابهة.
ثالثًا: البنية التحتية والخدمات ودعم الاستدامة الصناعية
تحتاج هذه المدينة إلى منظومة بنية تحتية ذكية و مستدامة تشمل:
– محطات كهرباء و مياه و معالجة صرف صحي (بشراكات طاقة متجددة).
– وحدات سكنية للعاملين، و مستشفيات و مراكز تدريب مهني.
– مناطق خضراء بيئية و شبكات نقل لوجستي داخلي و خارجي.
– فروع للبنوك وشركات التمويل، و مقار للمؤسسات الحكومية المعنية (مثل الجمارك، الضرائب، الاستثمار و التجارة).
رابعًا: السوق العالمية والفرص الاستثمارية:
1. يبلغ حجم السوق العالمي للقطن ومشتقاته أكثر من 60 مليار دولار سنويًا، تتصدره دول مثل الهند، بنغلاديش، الصين، و في القارة الأفريقية تأتي إثيوبيا و مصر كمنافسين إقليميين.
2. السودان يمتلك فرصة للدخول بقوة إلى هذه السوق، بشرط الاستثمار في الجودة و السلاسل المتكاملة و يمكن تحقيق ذلك من خلال:
– شراكات مع صناديق ومحافظ استثمارية عربية و أجنبية.
– نموذج التمويل البنيوي (Project Finance) عبر الصناديق السيادية.
– فتح باب الاستثمار للمغتربين والمغتربات السودانيين عبر آليات مضمونة العائد.
خامسًا: شركة السودان للأقطان و الدور المركزي في المدينة: بفضل خبرتها الطويلة في صناعة و تجارة و تصدير القطن، يجب أن تسند لـشركة السودان للأقطان أدوار استراتيجية داخل المدينة، تشمل:
1. الضبط التشريعي و التنظيمي للأسواق والمواصفات والجودة.
2. التسويق العالمي للمنتجات تحت علامة (قطن السودان).
3. التفاوض مع الشركاء الدوليين في مجال البحوث، التسويق، والعقود طويلة الأجل.
4. إدارة محفظة المخزون الإستراتيجي و دعم الاستقرار السعري.
سادسا: الأبعاد المجتمعية و الأمنية والتنموية: لا تقتصر فوائد هذه المدينة على الاقتصاد فقط، بل تمتد إلى:
1. توفير أكثر من 50,000 وظيفة مباشرة وغير مباشرة.
2. استقرار مجتمعي في المناطق المحيطة عبر فرص عمل وخدمات.
3. الحد من الهجرة و النزوح الاقتصادي.
4. إعادة دمج الشباب في منظومة إنتاجية حقيقية.
5. تحقيق عائدات ضريبية للدولة، و تعزيز الأمن والسلم المجتمعي.
و في الختام تذكر أن السودان يعود إلى خارطة القطن العالمية بتأسيس مدينة الصناعات القطنية المتخصصة ليس مجرد مشروع صناعي، بل هو مشروع نهضوي وطني يعيد للسودان مكانته في الأسواق العالمية، و يعزز فرص التنمية المتوازنة، ويضع لبنة أساسية في بناء اقتصاد إنتاجي حقيقي. و مع تضافر الإرادة السياسية، و دعم القطاع الخاص، و خبرة شركة السودان للأقطان، فإن هذه المدينة يمكن أن تصبح رمزًا جديدًا لاقتصاد سوداني متجدد بخبرات متراكمة و رؤية استراتيجية شاملة.
(فالحلم ليس ببعيد فقط يحتاج إلى عزيمة).