
تجاوزت أعوام تجريب السودانيين حكم أنفسهم السبعين عاماً، فمنذ العام 1953 حين بدأت تجربة الحكم الذاتي تمهيداً للاستقلال و حتى الآن و السودانيون يحكمون أنفسهم.
و خلال هذه العقود السبعة مرت على السودان جميع أشكال أنظمة الحكم، من نظام “ديمقراطي” تُشرف عليه السلطة الاستعمارية، إلى نظام حكم وطني متعدد الأحزاب، إلى نظام يُنشئه انقلاب عسكري يبدأ قابضاً ثم يبسط قدراً من الحريات و التعدد، إلى نظام انتقالي ينشأ إثر حِراك شعبي نسميه ثورة و تستجيب له القوات المسلحة فتطيح بالنظام القائم … و هكذا دواليك !!
نشأ أول نظام حكم وطني عقب الحرب العالمية الثانية، في ضوء سياسات جلاء الاستعمار عن مستعمراته، و تأثرت أنظمتنا اللاحقة بما تلا ذلك من أجواء الثنائية القطبية في الستينيات و السبعينيات من القرن العشرين حيث كانت تسود أجواء الحرب الباردة و الاستقطاب بين المعسكرين الاشتراكي الشرقي و الرأسمالي الغربي، و سادت في منطقتنا أنظمة يسارية و أخرى قومية، حيث وصلت أحزاب شيوعية و قومية عربية إلى سُدة الحكم في كثير من دول المنطقة بما في ذلك السودان، و خلال السبعين عاماً هذه تأثرت أنظمة الحكم عندنا بتقلبات الوضع الدولي، فمن الحرب الباردة إلى انهيار الإتحاد السوفيتي إلى “السوبر بور” و نظام القطب الواحد، مروراً بموجات الربيع العربي فالثورة المضادة، فعلت كلها فعلها في دعم أنظمة الحكم عندنا أو دعم معارضيها !!
و على وجه الإجمال يمكننا القول أن حزبي الأمة و الاتحادي الديمقراطي، حكما قبيل الإستقلال و بعده إلى أن سلما السلطة للجيش في نوفمبر 1958، ثم عادا إلى السلطة عقب ثورة أكتوبر 1964 إلى أن أطاح بهما انقلاب الشيوعيين و القوميبن في مايو 1969 ثم عادا إلى السلطة عقب ثورة أبريل 1985 إلى أن أطاح بهما انقلاب الإنقاذ الذي وقف وراءه الإسلاميون.
و وصل الشيوعيون و القوميون إلى سُدة الحكم عقب تدبيرهما إنقلاب جعفر نميري لكن بقاءهما الصريح في السلطة لم يدم إلا لسنوات معدودة، ثم عادا إلى السلطة عقب الإطاحة بنظام الإنقاذ في 2019 و بقيا لنحو ثلاث سنوات.
و شارك الإسلاميون في الحكم عقب المصالحة الوطنية مع نظام الرئيس نميري لنحو ست سنوات، ثم شاركوا في الائتلاف القصير الذي شكله الصادق المهدي في أواخر سنين حكمه الأخير ثم وصلوا إلى السلطة عبر إنقلاب 1989، فكانوا بذلك أطول القوى السياسية بقاءً في السلطة.
أما في تجارب المعارضة، فيمكننا أن نجملها في معارضة الجبهة الوطنية التي ضمت أحزاب الأمة والاتحادي والإسلاميين لنظام الرئيس نميري لنحو عشر سنوات، ومعارضة الشيوعيين لذات النظام لنحو 12 عاماً، ثم معارضة الأمة والاتحادي وكل قوى اليسار لنظام الإنقاذ لخمسة عشر عاماً متصلة أعقبتها سبعة أعوام متفرقة، وهكذا شكلت أحزاب الأمة والاتحادي والشيوعيين أطول فترات السودان معارضة.
و في تجارب المعارضات لم تبق قوي سياسية سودانية جربت ذلك و لم تحمل السلاح في وجه السلطة المركزية، أو تدعم القوى التي تحمل السلاح، بدءًا بتجربة الجبهة الوطنية مروراً بتجربة الحركة الشعبية ثم التجمع الوطني الديمقراطي و انتهاءً بحركتي تحرير السودان و العدل و المساواة في دارفور.
و خلال هذه العقود السبعة، تضاعف عدد الأحزاب السياسية لأكثر من عشرة أضعاف، و عدد حركات التمرد لأكثر من ثلاثين ضعفاً، و ظلت كل هذه القوى تتصارع حول السلطة، بين حاكم و معارض، و تستخدم كافة الأساليب في ذلك، حتى أنه لم يعد في جسد السودان مكاناً إلا و فيه ضربة سيف أو طعنة رمح، و حتى صرنا مضرب الأمثال في عدم الاستقرار السياسي بدليل أن نخبتنا السياسية لم تتمكن حتى الآن من اعتماد دستور دائم للبلاد!!
مسؤولية الحال الذي وصلنا إليه لا تقع على عاتق الآباء المؤسسين للاستقلال وحدهم، و لا على عاتق الذين تعاقبوا على الحكم بعدهم إلى يوم الناس هذا، و إنما تقع أيضاً على عاتق الذين تناوبوا في معارضة الأنظمة التي حكمتنا، و إن كان قدر المسؤولية يتفاوت بين نظامٍ و آخر و بين معارضة وأخرى، و لهذا فإن المطلوب – لكي نخرج من هذا النفق الذي نحن فيه – أن نُخضع جميع تجاربنا ،في الحكم كانت أو في المعارضة، إلى مراجعة دقيقة و تشريح و نقد، لنعرف جوانب الرشد في تلك التجارب ،إن وجدت، و جوانب الطيش و الإخفاق.
إن مطالبة الإسلاميين وحدهم بنقد تجربتهم و التطهر من أدرانها، و إهمال تجارب الآخرين ممن سبقوا أو لحقوا، لا يعني سوى كونه نوع من التنمر السياسي الذي لن يؤدي إلى جرد حساب حقيقي، و سيبعث للتشكيك في مقاصده، و الأولى بنا جميعاً أن نُقر بمسؤوليتنا المشتركة عمّا آلت إليه أوضاع بلادنا، و مسؤوليتنا كذلك عن التصدي لانتشالها من وهدتها، و المدخل السليم إلى ذلك هو الاعتراف بالتقصير ،كلٌ بحسب تجربته، و التنادي إلى حوار حقيقي ،لا يستثني أحداً، نخرج في ردهاته الهواء الساخن، و نعترف أمام بعضنا بأخطائنا و أوجه القصور في تجاربنا، و نرسم مجتمعين مستقبل بلادنا، و نترك لشعبنا أن يختار في أجواء معافاة مَن الذي يرغب في أن يوليه أمره أو يحجب عنه ثقته.