
الرقص على رؤوس الأفاعي مقولة شهيرة ارتبطت بالرئيس اليمني الراحل علي عبد الله صالح، في توصيفه لواقع سياسي معقد تطلّب إدارة توازنات دقيقة داخليًا و خارجيًا. و اليوم، تكاد العبارة تنطبق على المشهد السوداني وسط تحولات إقليمية كبرى تعيد تشكيل موازين القوى في الشرق الأوسط. فالحرب بين إيران و إسرائيل بصرف النظر عن مآلاتها تعبّر عن مرحلة جديدة تتشابك فيها المصالح، و تتنوع أدوات النفوذ، حيث أضحت المواجهة العسكرية جزءًا من مشروع إستراتيجي أوسع يعيد رسم خرائط الهيمنة الإقليمية في المنطقة.
في هذا السياق، يجد السودان نفسه في موقع بالغ الحساسية، تتقاطع فيه التحديات الداخلية مع صراعات إقليمية متسارعة تجعله جزءًا من معادلات تتجاوز حدوده.
و يأتي الحراك الأميركي في المنطقة، مدعومًا بتأييد غير مشروط لإسرائيل، و تمويل الحرب عبر قوى خليجية -بحسب مراقبين- ضمن مشروع لإعادة هندسة النظام الإقليمي، و إنتاج أنظمة سياسية عربية جديدة، لا تكتفي بالولاء، بل تندمج بالكامل في مشروع التطبيع وفق المشروع الإبراهيمي. إذ لم يعد المطلوب أنظمة موالية فحسب، بل بنى سياسية و ثقافية تتماهى مع تصوّر إسرائيلي-أميركي للمنطقة يُعيد ضبط الإقليم وفق معايير الهيمنة الناعمة و التحكم المستدام.
وسط هذه المتغيرات، يبرز السودان كحالة استثنائية تحمل إمكانات استراتيجية واعدة، إذا أُحسن توظيف التوازنات الإقليمية، و اللعب على خطوط التماس بحذر وذكاء. ورغم الجراح الداخلية المفتوحة، و تعقيد الأزمات السياسية و الاجتماعية، فإن السودان يمتلك موقعًا جيوسياسيًا بالغ الأهمية، و موارد طبيعية و بشرية ضخمة، و موقعًا إقليميًا يربطه بالقرن الأفريقي و محيط البحر الأحمر و الخليج العربي في آنٍ واحد. و إذا كان بعض الفاعلين الإقليميين مهددين بالذوبان أو السقوط في فوضى ممنهجة، فإن السودان، إن أحسن ترتيب بيته الداخلي، قادر على التحوّل من دولة كانت على هامش الصراع إلى دولة مركزية مؤثرة في معادلات ما بعد الصراع.
و مع اتساع رقعة الحرب في الخليج، و ارتفاع كلفتها، و تزايد احتمالات الانهيار في بعض دوله، قد يصبح السودان الوجهة الأقرب و الأكثر قابلية لاستقبال تدفقات بشرية و اقتصادية هائلة، سواء من مواطنيه العائدين من هناك، أو من عربٍ قد تدفعهم الأوضاع إلى الهجرة بحثًا عن أمن مفقود. هذه الموجات المتوقعة من النزوح العربي و الخليجي نحو السودان قد تُشكل، إذا أُديرت بوعي، رافعة اقتصادية ضخمة تسهم في تحريك عجلة الإنتاج، و توسيع السوق المحلي، و زيادة الطلب على الخدمات و السلع والمساكن، فضلًا عن إمكانية استثمار رؤوس الأموال الهاربة في قطاعات واعدة كالتعدين، الزراعة، و الطاقة و الثروة الحيوانية .
إن التحول الإقليمي المقبل لا يقتصر على الاقتصاد، بل يمتد إلى بنية الأمن في البحر الأحمر والقرن الأفريقي. وإذا نجح السودان في استعادة الاستقرار، فقد يتحول جيشه -بما أثبته من كفاءة قتالية- إلى ركيزة إقليمية لحفظ التوازن. و مع تراجع الأدوار الخليجية، تتعاظم قيمة السودان كفاعل استراتيجي، و يغدو جيشه طرفًا مطلوبًا في معادلات الأمن الإقليمي، بما يعزز نفوذه السياسي و التفاوضي في لحظة تعاد فيها هندسة المنطقة.
لكن جميع السيناريوهات تظل مرهونة بقدرة السودان على التقاط لحظته التاريخية، باعتبارها فرصة لتأسيس مسار استراتيجي جديد. فالنجاح مرهون بالتحرك المدروس، و تجنّب استنساخ تجارب الماضي، و امتلاك رؤية وطنية عقلانية تتجاوز الانقسامات و تؤسس لدولة فاعلة لا منفعلة. و يتطلب ذلك قيادة تدرك حساسية التوقيت، و تبني سياساتها الخارجية على براغماتية هادئة توازن بين المصالح الوطنية و النفوذ الإقليمي بعيدًا عن الشعارات و الاستقطاب الأيديولوجي.
السودان لم يعد فاعلًا هامشيًا في الإقليم، بل أضحى مركزًا استراتيجيًا في قلب التحولات الجيوسياسية الجارية. فالخرائط الجديدة تُرسم خلف الكواليس، والفراغ الذي خلّفه تراجع النفوذ الخليجي في البحر الأحمر لا بد أن يُملأ. وإن لم يبادر السودان إلى ملئه، فسيفعل ذلك فاعلون آخرون.
لذا، فإن اللحظة تقتضي وعيًا استراتيجيًا عقلانيًا، يتجاوز الحسابات العاطفية والماضي المثقل بالجراح، و يدرك أن التحولات الكبرى -مهما بدت مدمّرة- تحمل في طياتها فرصًا لمن يُحسن قراءتها بذكاء و واقعية.
و بحسب ما نراه من وجه الحقيقة لقد آن للسودان أن يرقص على رؤوس الأفاعي. و ليس في ذلك مجازفة متهورة، بل استجابة لطبيعة اللحظة التاريخية التي لا تسمح بالتقوقع أو الانتظار. فالأفاعي تتحرك، و الخرائط يُعاد رسمها، و المصالح تتبدل. ومن يمتلك القدرة على السير فوق الحبال المشدودة دون أن يسقط، هو من سيكون له نصيب في صناعة التاريخ و كتابته. و ربما يكون السودان ،بثقله الجيواستراتيجي، أمام بوابة مختلفة، لا تفتحها القوة وحدها، بل يُفتح قفلها بالعقل، و الرؤية و البصيرة.
دمتم بخير و عافية.
الثلاثاء 24 مايو 2025م Shglawi55@gmail.com