وجه الحقيقة … اتفاقية عنتبي.. صراع المصالح وتداخل الأجندات. … بقلم إبراهيم شقلاوي

قبل الحديث عن موضوع المقال دعونا نوضح ما هي اتفاقية عنتبي؛ هي اتفاق إطاري لتعاون دول حوض النيل تمت صياغته والموافقة عليه بين عدد من الدول الأفريقية التي تمثل المستفيدين من مياه النيل، في مايو من العام (2010) وقعت عليه بتواريخ متقاربة كل من أوغندا، وتنزانيا، ورواندا، وكينيا وإثيوبيا وانضمت بعد ذلك بورندي ولم توقع عليه حينها السودان ومصر وجنوب السودان، حيث يشترط لاستيفاء الإتفاق الشروط القانونية التي تمكن من الدفع به للمنظمات الدولية المعنية لإجازته أن يوقع عليه ثلث الأعضاء الذين يمثلون دول الحوض وهذا ما لم يتوفر للإتفاق في ذلك الحين.
عارض السودان ومصر الإتفاق لأسباب موضوعية أهمها أن الإتفاق يتضمن بند يمنح دول المنبع حق إقامة المشروعات المتعلقة بالمياه دون الرجوع أو التوافق مع دول المصب وهذا ما يتعارض مع القوانين الدولية و الإقليمية المنظمة لحقوق الانتفاع من المجاري المائية والأنهار المشتركة بين الدول.
كذلك يتعارض الإتفاق مع الحقوق التاريخية في مياه النيل التي تمت إجازتها في عدد من اتفاقيات الملزمة في (1902 – 1929-1959) التي أقرت عدم الإضرار بدول المصب، كما أقرت نسب معلومة للسودان (18.5) ولمصر (55.5) مليار متر مكعب.
رغم ذلك في خطوة وصفت بالمفاجئة والتي ربما تتستر خلف أجندة سياسية صادقت دولة جنوب السودان في مطلع هذا الشهر يونيو (2024) على إتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل (عنتبي) وبذلك تمنح النصاب القانوني للدول الموقعة على الاتفاقية للدفع بها للمنظمات الاقليمية والدولية لإجازتها، حيث تسمح الاتفاقية بخفض حصص السودان ومصر من مياه النيل، وتقر إنشاء مفوضية حوض النيل لإعادة تقسيم المياه وإدارتها والإشراف على استخدامها.
هذا الأمر يفتح الباب واسعاً أمام السودان ومصر لإعادة تقييم و دراسة موقفهم من الاتفاقية في ظل التحديات الماثلة التي يعيشها السودان المتعلقة بالحرب، والمتعلقة بأهمية وجود نظام حكم منتخب (مجلس تشريعي) يمكن الذهاب في إعادة قرآءة المشهد وفقا للمصالح المائية المستقبلية للبلاد مع قدر من التوازن في علاقات الجوار بجانب استصحاب القانون الدولي للمياه في ذلك. كذلك أهمية دراسة الاتفاقية من وقع المستجدات التي فرضها سد النهضة والتي لم يتم التوصل حتى الآن لرؤية مشتركة لإدارته بين الدول الثلاث.
في جانب آخر يرى عدد من الخبراء في جانب الموارد المائية و التنمية أنه يجب على السودان أن يكون جاهزاً تحسباً لأي تطورات محتملة في أن تتحول اتفاقية عنتبي إلي واقع، خصوصاً بعد أن أكمل جنوب السودان النصاب المطلوب للدول الموقعة للدفع بها لإجازتها في المنظمات الدولية والاقليمية، لذلك يجب على السودان الضغط منذ الآن لإقرار مبدأ الحقوق التاريخية المكتسبة والإخطار المسبق وعدم الإضرار بالآخرين، إلي جانب الشروع الفوري في إعداد البيانات والمعلومات اللازمة بواسطة جهات الاختصاص وهنا أعني وزارة الري والموارد المائية السودانية التي يناط بها شأن المياه في البلاد، عليها أن تبدأ بإعداد الخطط والدراسات للتعامل الراهن و المستقبلي مع الأمر، وأن تسارع في توضيح موقف السودان من الخطوة التي قامت بها دولة جنوب السودان في التوقيع على اتفاقية عنتبي حيث لم نرصد حتى الآن موقفاً رسمياً من الحكومة السودانية سلباً أو إيجاباً حول الإتفاق مما يعد تجاهل مُخل ربما يصعب على المفاوض السوداني فرض رؤية السودان مستقبلاً.
بالرغم من ذلك في تقديري أن الرؤية الغالبة في إثارة موضوع اتفاقية عنتبي وذهاب جنوب السودان للتوقيع عليها في هذا التوقيت لا يخلو من ابتزاز للسودان ومصر، و ربما يجعل جنوب السودان في موقف صعب ينعكس على أوضاعه الأمنية الداخلية المضطربة، فالأمن المائي يحتاج إلى أن تسبقه تفاهمات مع دول الجوار، هذا في ظل فشل اللجان المشتركة لسد النهضة فى الوصول لاتفاق مُلزِم للجانب الإثيوبي في الإدارة المشتركة للنهضة لتكامل المصالح، عليه من المرجح أن هذا التباين في المواقف شجع دولة جنوب السودان بإيعاز من آخرين في الدفع بملف عنتبي إلى الطاولة حتى يكون الأمر ضمن حزمة واحدة من القضايا المختلف حولها والمتعلقة بإدارة المياه في حوض النيل، وهذا مايرجح وجود أجندة سياسية خفية جعلت دولة جنوب السودان تغير موقفها بعد (14) عاماً من بروز الاتفاقية، علماً بأن صراع المصالح حول مياه النيل صراع قديم متجدد و لن يكون محصوراً على دول المنبع والمصب بل ربما يتطور بدخول أطراف أخرى إقليمية ودولية ظلت أطماع دها متجددة في المياه العذبة، وظلت هذه الأطماع تأخذ أشكالاً ومظاهر مختلفة كلما بدأ هناك ضعف في السودان أو مصر.
لذلك يجب أن يظل تعظيم المصالح الاستراتيجية قائماً بين السودان ومصر للمحافظة على المكتسبات التاريخية في مياه حوض النيل، كما يجب توحيد المواقف في المحافل الاقليمية والدولية حتي ينعم البلدين بالهدوء اللازم لأجل مصالح الشعبين بعيداً عن أجواء النزاعات والأطماع الدولية، كما يجب الانتباه الي أن إتفاقية عنتبي تمثل مظهر من مظاهر صراع النفوذ و المصالح وتداخل الأجندات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المنطقة التي أصبحت تضج بالنزاعات.
دمتم بخير وعافية
18/يونيو /2024. Shglawi55@gmail.com