
حين يعلو صوت البندقية على كل الأصوات، و تُمحى الملامح الثقافية أمام زحف الحرب فإن التاريخ يصنعه الجند إلى جانب المبدعين الأذكياء، و بين تلك و أولئك يطل سؤالنا: أين المبدعون السودانيون؟ أولئك الذين لطالما شكّلوا وجدان الأمة السودانية، و مهّدوا بالكلمة، و اللحن و المسرح دروب الوطنية و بناء الوعي.
فمنذ اندلاع الحرب المخزية في 15 أبريل 2023، تشهد البلاد واحدة من أقسى مراحلها، أزمة وجودية تهدد الهوية و تعيد صياغة المجتمع السوداني وفق معادلات جديدة. في هذا المشهد المكتنف بالتحدي، تبدو الساحة الثقافية خالية من تلك الأصوات التي اعتدناها في لحظات الانعطاف الوطني و كأنّ التعب قد نال منهم وفقدوا الانتباهة و الوعي باللحظة التاريخية.
غياب المبدع السوداني عن مشهد الحرب و المحنة مثل فراغ في لحظة تستدعي الحضور أكثر من أي وقت مضى. فقد علّمنا تاريخ السودان أن الكلمة كانت دومًا جزءً من النضال الوطني، و أن الأغنية كتبت ما عجزت عنه الصحف، و المسرح قال ما لا تجرؤ عليه المنابر. في زمن الثورة، لم يكن الشارع ليشتعل دون صوت محمد الأمين، و لا كانت الذاكرة لتحتفظ بالحلم دون قصائد (محمد المكي إبراهيم).
و في لحظات التراجع، كتب (حسين أونسة) “عزيزٌ أنت يا وطني برغم قساوة المحن”، لتصبح كلماته وقود لأجل استعادة الثقة. لم يكن الشعر ترفاً و لا الأغنية تسلية، بل كانت سلاحًا في معركة الكرامة التي أعزت السودانيين أصحاب الفكرة و التدبير كما كانت طريقًا لرأب الصدع حين توارت القيم التي توحد شتات الناس.
غير أن هذا الغياب لا يُفهم إلا بمقارنة تجارب شعوب أخرى مرت بالمأساة ذاتها و نجحت إلى جانب البندقية في حفظ الأوطان، بمداد المبدعين. تجربة رواندا و التي شهدت في عام 1994 واحدة من أبشع الإبادات الجماعية في العصر الحديث، تظل شاخصة نستلهم منها الدروس و العبر تُظهر كيف يمكن للكلمة أن تصبح جسراً للعبور للمستقبل.
في مجتمع تمزقه الانتماءات الإثنية، تحوّل الفن إلى أداة للمكاشفة و الاعتراف، استخدم المسرح ليحكي ما لا يُقال، و ليروي قصص الناجين و الجلادين في لحظة واحدة، فكانت الخشبة أكثر صدقاً من منصات العدالة الدولية، و أكثر فاعلية في بناء الذاكرة المشتركة. هذه التجربة، التي جعلت من الإبداع مكوناً في عملية المصالحة، تصلح كنموذج قريب من الحالة السودانية، إذ لا يختلف المشهد كثيرًا من حيث طبيعة الانقسامات أو عمق الجراح.
في رواندا لم تُصنع الهوية الوطنية في غرف السياسة وحدها، بل في الفضاء الثقافي الذي أعاد بناء الإنسان. و كذلك الحال في لبنان، البلد الذي عرف حربًا أهلية امتدت لخمسة عشر عامًا. هناك كان المسرح السياسي و الموسيقى و السينما منصات لطرح الأسئلة المؤجلة: من نحن؟ و لماذا احترق هذا البلد؟ لقد لعب فنانون وطنيون أمثال (فيروز) و (زياد الرحباني) دورًا فريدًا في زعزعة السرديات الطائفية بلغة تسخر من العبث و تعري تناقضات الواقع. وبينما فشل السياسيون في علاج الانقسام، ظل الفن ملتقي اللبنانيون دون أن يسألوا عن طائفة أو دين.. فقد اجتمعوا علي حب الوطن.
لبنان ورواندا، كلٌ بطريقته، أثبتا أن المبدع لا يأتي بعد انتهاء المعركة، بل قبلها وأثناءها وبعدها. وأن الإبداع ضرورة وجودية في لحظات التصدع. وهذا هو الدرس الأهم الذي ينبغي أن يستوعبه المبدعون السودانيون اليوم. فالشعب لا ينتظر منهم تهويمات شاعرية أو عزفًا خارج السياق، بل خطابًا فنياً يُعيد توحيد الذاكرة الممزقة، و يكتب ما تهابه النشرات الإخبارية.
إن السودان بما يحمله من تنوع ثقافي، ليس في حاجة إلى نخب سياسية متصارعة بقدر ما يحتاج إلى مخيلة جديدة، و إلى سردية تعيد تشكيل ما تمزق من نسيجه الاجتماعي، بلغة الوطن الذي يسع الجميع. يحتاج إلى أغنية تواسي مدني و هي تصمد، و قصيدة تنقذ الخرطوم من الغرق في التناقضات و مسرحية تلمّ شتات كردفان و دارفور التي أوشكت أن تمضي لغير رجعة.
هذا وبحسب ما نراه من وجه الحقيقة وفي ضوء ما يمر به السودان من تحولات، فإن إعادة تأسيس الدولة السودانية لا يمكن اختزالها في المسارات السياسية أو الأمنية وحدها، بل تتطلب استنهاض القوى المنتبهة المبدعون جزء منها ، كتاب و مسرحيين وشعراء وفنانين. فهؤلاء ليسو ناقلي مشاعر أو مؤرخي أحداث، بل فاعلون في تشكيل الوعي الجمعي، و الذاكرة الثقافية و مهندسو للخيال الوطني.
إن المسرح الذي يعرّي بنية العنف، و الشعر الذي يستبطن الألم و يحوّله إلى أمل و الفن الذي يوحّد الشارع عندما تعجز السياسة، هي أدوات لا تقل أهمية عن أدوات التفاوض و المصالحة و العدالة الانتقالية. و من هذا المنطلق، فإن ضمان بقاء السودان كفكرة جامعة ومشروع وطني ناهض قابل للاستمرار، مرهون بمدى قدرة نخبه الإبداعية على إعادة إنتاج السرد الوطني، و صياغة خطاب منتج يعبر عن التنوع، و يجسر الهوة الاجتماعية.. ذلك خميس الفكرة و النغم و تقرير المصير.
دمتم بخير و عافية.
الخميس 26 يونيو 2025 م Shglawi55@gmail.com