مقالات الرأي
أخر الأخبار

وجه الحقيقة … وحدة السدود و حكومة الأمل .. بقلم/ إبراهيم شقلاوي

كشف رئيس الوزراء د. كامل إدريس من مدينة بورتسودان أول أمس عن ملامح الحكومة الجديدة “حكومة الأمل المدنية”، واضعًا بذلك أسس مشروع وطني يتجاوز المحاصصات السياسية، و يؤسس لحكم يرتكز على الكفاءة و النزاهة. هذا الإعلان يمثل خطوة جريئة طالما انتظرها الشعب السوداني لإعادة تعريف دور الدولة و مؤسساتها، مستلهما نماذج واقعية صمدت في وجه عواصف السياسة و صراعات النفوذ.

حدد رئيس الوزراء خمسة أسباب رئيسية لأزمة السودان، أبرزها: الفساد، ضعف الإدارة، غياب العدالة، انعدام الشفافية و انهيار منظومة القيم. أمام هذا التحدي ، لا يكفي تشكيل حكومة “تكنوقراط” فحسب، بل يتطلب الأمر قراءة متأنية للتجارب التي أثبتت جدواها رغم التحديات، و هنا تبرز وحدة تنفيذ السدود كمؤسسة هندسية، تنموية مستقلة قاومت كل أشكال هيمنة النفوذ، ونجحت بشهادة الخبراء و المراقبين في تقديم حلول عملية و واقعية للدولة حين اشدت عليها الحصار.

ظهرت وحدة تنفيذ السدود في العام 1999ضمن توجه إستراتيجي للدولة لسد فجوة الكهرباء و بناء مشروعات تنموية كبرى. لكنها سرعان ما تحولت إلى نموذج مؤسسي مستقل تمتع بإدارة مهنية، و خبرة تراكمية، و أداء إداري رشيق تجاوز البيروقراطيات. و على مدى أكثر من عقدين، نفّذت الوحدة مشروعات إستراتيجية غيرت وجه السودان، على رأسها سد مروي، وت علية الروصيرص، و سدي أعالي عطبرة و ستيت، إضافة إلى مساهمات فعالة في عدد من المشروعات التنموية المصاحبة من طرق وجسور و مستشفيات و مشروعات زراعية بجانب مشروعات حصاد المياه.

و رغم أن هذه الإنجازات كانت كفيلة بمنحها الاستقرار المؤسسي، إلا أن الصراعات الإدارية و التجاذبات السياسية وضعتها مرارًا في مواجهة مع الوزارات التي تناوبت على إدارتها حيث ظل ينظر إلى الوحدة كـ”جسم غريب” خارج السيطرة التقليدية.

ما تعرّضت له وحدة السدود لا يمكن فهمه إلا ضمن سياق الصراع بين نماذج الإدارة : نموذج قائم على التاريخ والتراتبية و البيروقراطية، وآخر جديد يدعو الي إعلاء الكفاءة، و القيادة المهنية، و التحرر من هيمنة الأجندات. وهو الصراع ذاته الذي أعاق تطور العديد من مؤسسات الدولة، لكنه كان أكثر وضوحًا في حالة الوحدة ، بسبب تموضعها التقني و السيادي في آنٍ معًا، ما جعلها محل تنافس بين الوزارات المتعاقبة أو ربما تربص.

في الوقت الذي كانت فيه الوحدة تحقق إشادة الممولين الدوليين والإقليميين، ويثني عليها شركاء التنمية من الصناديق العربية و الدول الكبرى، كانت تُحاصر داخليًا بسياسات الإقصاء، و إعادة الهيكلة، و التبعية الإدارية المتأرجحة، التي أهدرت ما يقارب 50% من كوادرها بحجة الإصلاح الإداري.

أظهرت الحرب الأخيرة أن مشروعات السدود لم تكن مجرد بنى تحتية، بل ركائز استراتيجية حافظت على استمرارية الدولة في لحظة انهيار محتملة. توليد الكهرباء من السدود مثّل شريانًا حيويًا بعد خروج التوليد الحراري، فيما ساهمت الطرق و الجسور والمرافق الحيوية كجسر المتمة-شندي، و جسر دنقلا-السليم، و مروي-كريمة، و مستشفى مروي و مطار الشوك في توفير إسناد لوجستي و صحي و أمني بالغ الأهمية. هذه المشروعات، التي طالها التشويه السياسي في أعقاب الثورة، برهنت عمليًا أن الإنجاز التنموي لا يُقاس بسياقه السياسي بل بقدرته على الصمود حين تتعطل الدولة وتنهار مراكز الخدمات، وتبقى المؤسسات التي بُنيت بكفاءة تؤدي دورها بما يكسب الحياة الاستمرارية .

كل هذه المعطيات تجعل من وحدة السدود نموذجًا مصغرًا للحكومة التي دعا إليها إدريس. حكومة تقوم على المهنية وكفاءة التنفيذ والجودة ، بعيدة عن الترضيات، و تعمل بمعايير المحاسبة و الشفافية التي تطمئن الشركاء المحلين و الدوليين.

في ظل الحاجة الماسة إلى مؤسسات ذات طبيعة تنفيذية مرنة، تواكب طموحات الحكومة الجديدة وتنهض بعبء المشروعات التنموية التي تمثل عصب مشروعات “الأمل”، مثل مياه القضارف، و مشروع أعالي عطبرة الزراعي، و كنانة و الرهد، إلى جانب استكمال دراسات السدود الجديدة، و المضي قدمًا في مشروع الدولة الإستراتيجي المعروف بصفرية العطش، عبر برامج حصاد المياه والآبار التي تستهدف استقرار الريف السوداني ضمن أهداف الألفية التنموية 2030.

و من هنا، يصبح من الطبيعي أن تعاد قراءة وضعية الوحدة من حيث التبعية الإدارية، لضمان سرعة القرار وجودة التنفيذ. و قد أثبتت التجربة أن التبعيات الوزارية المتقلبة كانت سببًا مباشرًا في إضعاف بنيتها، و إهدار خبراتها، و التأثير سلبًا على تمويل مشروعاتها. و لذلك، فإن تبعيتها في المرحلة القادمة في سياق الهيكلة ينبغي أن تكون ضمن الاشراف المباشر لرئيس الوزراء أو للمجلس السيادي، بما يضمن لها الغطاء السياسي و الإداري اللازم لتأدية مهامها كذراع تنفيذي للدولة في أكثر الملفات حساسية و أهمية.

إن لحظة البناء الحقيقي للدولة لا تبدأ من تغيير الوجوه، بل من إعادة الاعتبار للمؤسسات القادرة على العمل ، والتي أثبتت بالفعل أنها تمتلك القدرة على تحويل الخطط إلى واقع . وحدة السدود، برصيدها المهني، و خبرتها الفنية، و تاريخها التنموي تستحق أن تكون في قلب هذا التحول الذي ينتظره الشعب السوداني بعد سنوات الحرب المخزية.

هذا و بحسب ما نراه من وجه الحقيقة لا يمكن لحكومة الأمل أن تترسخ دون إصلاح مؤسسي يعيد الاعتبار للكفاءة كمرجعية وحيدة في بناء الدولة. و تجربة وحدة تنفيذ السدود، بما راكمته من إنجازات في أصعب لحظات الحصار الاقتصادي، تقدم نموذجًا حقيقيًا لما يمكن أن يكون عليه الأداء حين تتحرر المؤسسات من عبء البيروقراطية الإدارية، و تُمنح الثقة و الصلاحية. فليس المطلوب إعادة إنتاج الماضي، بل استلهام ما أثبته الواقع من تجارب ناجحة؛ أن التنمية لا تُصنع بالشعارات، بل بمؤسسات حيث يبدأ تحول الدولة من وهم الأمل إلى فعله.
دمتم بخير و عافية.
السبت 21/ يونيو 2025 م Shglawi55@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى