
في سياق الفشل المستمر للأحزاب السياسية السودانية في استثمار سقوط نظام البشير، يبرز مشهد جديد يكشف عن استمرار هذه القوى في التلاعب بالحقائق لتحقيق مكاسب سياسية ضيقة. تصريحات (مبارك الفاضل) رئيس حزب الأمة- الإصلاح و التجديد، أول أمس للجزيرة مباشر حول أطروحات مزعومة تقدمت بها قيادة البلاد للمجتمع الدولي، و التي تتضمن قبول دور محدود لحميدتي و رفض أي دور ل(عبدالله حمدوك) تسلط الضوء على مدى التخبط و الانتهازية السياسية و الحزبية الذي تعيشها البلاد.
فبينما تتهم القوى السياسية الجيش بالسعي لحكم شمولي، تتجاهل حقيقة أنها نفسها عجزت عن تقديم رؤية موحدة أو قيادة وطنية حقيقية، مكتفية بمحاولة تشويه الخصوم و تزييف الوعي الجماهيري. هذا التناقض المستمر، الذي يقوم على الكذب و التضليل لا يعكس سوى أزمة سياسية ممتدة تعيق أي أفق للانتقال الديمقراطي الحقيقي في السودان.
لطالما شكلت العلاقة بين الأمن و الديمقراطية معضلة فلسفية عميقة، حيث يتردد السؤال الأبرز:أيهما أولى في لحظات التحولات الكبرى، استقرار الدولة أم حرية الاختيار؟ في السياقات المثالية، يُنظر إلى الديمقراطية بوصفها الطريق الأمثل لحكم الشعوب، حيث يكون المواطن هو صاحب القرار الأوحد، يختار قادته وفق إرادته الحرة. لكن حين تضع الأزمات الحادة الدول أمام تحديات وجودية، تنقلب الأولويات فتتراجع الأيديولوجيات الحالمة، و تبرز الضرورات العملية التي تجعل الأمن و الاستقرار قيمة تعلو على كل ما عداها.
عقب سقوط نظام البشير في 2019، كان الحلم الديمقراطي حاضرًا بقوة في وجدان السودانيين، لكنه اصطدم سريعًا بواقع سياسي مليء بالتناقضات. لم تكن المشكلة في فكرة الديمقراطية ذاتها، و إنما في ممارستها المرتبكة من قبل القوى السياسية التي بدت عاجزة عن إدارتها بمسؤولية. فقد أضاعت الأحزاب فرصًا ثمينة لبناء نموذج ديمقراطي مستقر، و انشغلت بصراعاتها الصفرية، حتى أصبحت الديمقراطية ذاتها عبئًا على الدولة بدلًا من أن تكون وسيلة لبنائها.
و عندما اختارت هذه القوى، في لحظات ضعفها، الارتماء في أحضان التدخلات الخارجية، و استقدمت بعثة أممية بدعوى المساعدة، ثم حاولت فرض دستور ” المحامين” الذي صيغ خارج إرادة السودانيين، بجانب اتفاق إطاري معزول، بات واضحًا أن الأمر لم يعد يتعلق بالديمقراطية، و إنما بمصادرة القرار الوطني لصالح أجندات استعمارية لا تخدم البلاد.
نحن اليوم أمام معادلة جديدة تجعل الأمن أولوية، في التاريخ السياسي للأمم، لطالما أظهرت الشعوب ميلًا فطريًا نحو السلطة القوية حين تواجه خطر التفكك. فالأمن هو الأساس الذي تقوم عليه الحضارات، و من دونه تفقد الدولة وظيفتها الأساسية في حماية مواطنيها. ففي لحظات الفوضى، يدرك الناس أن الحرية دون نظام تحكمه ضوابط مؤسسية تتحول إلى فوضى، و أن الديمقراطية في غياب الدولة القادرة على فرض سلطتها تصبح مجرد شعار لا معنى له. هذه المقاربة الفلسفية تحتاج إلى وعي متجاوز أطماع الأحزاب في سلطة لا يبذلون لأجلها الحرص على أمن البلاد أو مواطنيها.
في العام 2011 عانت مصر من حالة اضطراب سياسي و أمني غير مسبوقة، حيث أدت الخلافات الحادة بين القوى السياسية إلى حالة من الانقسام و الصراع ما تسبب في تراجع الاقتصاد و تنامي التهديدات الأمنية. ومع وصول البلاد إلى حافة الفوضى، جاء تدخل الجيش في 2013، حيث تم فرض خارطة طريق تركز على إعادة الاستقرار أولًا، قبل العودة إلى المسار الديمقراطي عبر انتخابات رئاسية و تشريعية لاحقة. و اليوم رغم اختلاف الآراء حول تفاصيل ما حدث، إلا أن مصر تمكنت من استعادة الأمن و بناء اقتصادها مما يبرز أهمية التوازن بين الاستقرار و الحرية.
كذلك رواندا بعد الإبادة الجماعية في 1994، أدركت القيادة الرواندية إن إعادة بناء الدولة لا يمكن أن تبدأ من الديمقراطية التعددية المباشرة، بل من فرض الاستقرار أولًا، و إعادة بناء مؤسسات الدولة، ثم التوجه لاحقًا نحو انفتاح سياسي تدريجي. اليوم تعد رواندا واحدة من أسرع الدول نموًا في إفريقيا، و ذلك بسبب تقديمها لمفهوم “الأمن أولًا” كشرط أساسي للتنمية و الديمقراطية.
على المستوى الدولي، تقدم الصين نموذجًا مختلفًا، حيث نجحت في تحقيق نهضة اقتصادية هائلة دون تبني ديمقراطية ليبرالية على النمط الغربي. فالحزب الشيوعي الصيني حافظ على سيطرته على الحكم، لكنه في المقابل وفر استقرارًا سياسيًا سمح بتحقيق تنمية غير مسبوقة، مما جعل الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم. هذه النماذج تطرح تساؤلًا مهمًا حول مدى ضرورة الديمقراطية بصيغتها التقليدية لتحقيق التنمية، أم أن الاستقرار المؤسسي قد يكون هو العنصر الأهم في بناء الدول؟
بناءً على هذه المعطيات، لم يكن غريبًا أن تفقد الأحزاب السياسية ثقة السودانيين، الذين باتوا يرون في الجيش المؤسسة الوحيدة القادرة على إعادة التوازن للدولة. فبحسب الوثيقة الدستورية للعام 2025، فإن الجيش مطالب بقيادة البلاد في هذه المرحلة وفق رؤية جديدة، لا تقوم على استنساخ تجارب الماضي، بل تؤسس لحكم رشيد يضع الأمن و الاستقرار في مقدمة الأولويات، تمهيدًا لمرحلة ديمقراطية حقيقية لا تُختطف فيها الدولة من قبل نخب فاشلة أو مليشيات منفلتة.
وداعًا يا ظلام الهم… و مرحبًا يا صباح السودان، ليس المطلوب اليوم إعادة إنتاج الدكتاتورية، كما يروج البعض، بل تحقيق معادلة جديدة تضمن استقرار الدولة دون مصادرة مستقبل الديمقراطية. فكما أن الأمن بلا حريات يقود إلى القمع، فإن الحرية بلا أمن تقود إلى الفوضى، و بين هذين الحدين، تحتاج الدولة إلى مرحلة انتقالية متماسكة، تعيد بناء مؤسساتها، و تؤسس لإقتصاد منتج، و تجهز البلاد لانتخابات حقيقية خلال 39 شهرًا، يتمكن فيها الشعب من ممارسة حقه في الاختيار و لكن في بيئة آمنة و مستقرة. هذا هو وجه الحقيقة.
دمتم بخير و عافية.
الثلاثاء 4 مارس 2025 م Shglawi55@gmail.com