
تُعد مشروعات البنية التحتية ،لا سيما في قطاع الطاقة، أحد المؤشرات البارزة على قدرة الدولة على استعادة وظائفها الأساسية، و ترسيخ مفهوم السيادة الوطنية خاصة في سياقات ما بعد الحرب أو خلال مراحل الانتقال السياسي. و في الحالة السودانية، تُعتبر الكهرباء أحد أهم أعمدة إعادة بناء الدولة، و ركنًا استراتيجيًا في معادلة الاستقرار السياسي و التنمية الاقتصادية و الاجتماعية.
في هذا الإطار، يكتسب خبر توقيع عقد استئناف العمل بمحطة كهرباء “كلاناييب” أول أمس بمدينة إسطنبول التركية – بحسب ما أوردته Sudansawa – أهمية مضاعفة، من حيث كونه استئنافًا لمشروع متعثر منذ سنوات، بجانب ما يحمله من دلالات سياسية و إدارية، و توقيت مهم في ظل تصاعد التحديات الأمنية، و ركود أداء الدولة و تآكل ثقة المواطن في المؤسسات الخدمية.
يُعد توقيع عقد استئناف العمل في محطتي كهرباء “قري و كلاناييب” – و هما من أبرز المشروعات الإستراتيجية بولاية الخرطوم و البحر الأحمر – خطوة مهمة، خاصة أن المشروع يعود إلى اتفاق سابق أُبرم عام 2016 بين الحكومة السودانية و شركة “سيمنز” الألمانية لإنشاء محطتين بقدرة إجمالية تبلغ 950 ميغاواط.
و رغم تعثر المشروع بفعل المتغيرات السياسية، فإن توقيع العقد الجديد بإشراف مباشر من وزير الطاقة السابق، الدكتور محيي الدين النعيم، أعاد المشروع إلى واجهة الأولويات التنموية. و قد اعتبره عدد من المراقبين اختراقًا نوعيًا يؤكد إمكانية إعادة تنشيط المشروعات الكبرى متى ما توفرت القيادة الفنية و التمويل و الإرادة السياسية.
كما هو معلوم تُشكل مشروعات الطاقة اليوم إحدى أدوات السيادة الفعلية، إذ أصبحت الكهرباء خدمة حيوية و مطلبًا يوميًا، و معيارًا لقياس مدى التزام السلطة تجاه المواطن و مؤشرًا على قدرة الدولة على الوفاء بوظائفها الأساسية.
و في هذا السياق، تكتسب الزيارة السابقة التي قام بها رئيس الوزراء، الدكتور كامل إدريس، إلى محطة “كلاناييب” دلالة إستراتيجية، كونها تؤكد وعي “حكومة الأمل” بأهمية ربط الملف السياسي بالتنموي، و اعتماد مشروعات البنية التحتية كنقطة ارتكاز لإعادة بناء الثقة و تعزيز الشرعية التنفيذية. و هناك زيارات منتظرة لمشروعات تنموية أخرى.
يعكس اختيار موقع محطة “كلاناييب” ببورتسودان، إلى جانب محطة “قري” بالخرطوم، وعيًا بأهمية التوزيع الجغرافي العادل لمصادر الطاقة بين المركز و الولايات؛ فبينما تدعم “قري” الصناعات التحويلية و مصفاة الخرطوم، تسهم “كلاناييب” في تعزيز قدرات الموانئ و الصناعات البحرية، إضافة إلى إنتاج المياه النقية، ما يجعلها مرتبطة بشكل مباشر بحل مشكلة العطش في ولاية البحر الأحمر حيث تعد الكهرباء أداة أساسية لتحقيق التوازن الإقليمي وتعزيز الاندماج الوطني.
يرتبط مشروع “كلاناييب” برؤية أوسع وضعتها وزارة الموارد المائية والكهرباء عام 2015، تهدف إلى رفع القدرة المركبة إلى 6500 ميغاواط بحلول عام 2030، من خلال التوسع في المحطات الحرارية والتوجه نحو مصادر الطاقة البديلة و المتجددة.
غير أن غياب الاستقرار السياسي أدى إلى تجميد التنفيذ، ما فتح الباب أمام تساؤلات حول مدى قدرة الدولة السودانية على الالتزام بخططها الإستراتيجية. وكما هو معلوم فقد عانت مشروعات الكهرباء في السنوات الأخيرة من ضعف مؤسسي وغياب الرؤية، ولذلك فإن ما نشهده اليوم من محاولات لإعادة إحيائها يمثل فرصة تاريخية لإعادة تعريف دور الدولة التنموي.
وتُعد محطة “كلاناييب” نموذجًا على التقاء أهداف التنمية المستدامة، من خلال الجمع بين أمن الطاقة و الأمن المائي بما يفتح المجال لتوسيع التجربة في ولايات أخرى تعاني هشاشة خدمية مماثلة. كما أن إعادة المشروع إلى دائرة التنفيذ تمثل تجاوزًا للأبعاد التقنية نحو التوجه الإستراتيجي لرفع الكفاءة وجودة التخطيط.
اللافت أن توقيع العقد قد أطلق موجة من التفاؤل الشعبي لما يُتوقع أن يسهم به في تحسين واقع المواطنين. ولا يمكن – بحسب مراقبين – إغفال الدور المحوري الذي لعبه وزير الطاقة السابق، الدكتور محيي الدين النعيم، في إعادة تفعيل مشروع “كلاناييب” رغم التحديات المؤسسية و السياسية التي واجهها القطاع.
ويُعد النعيم من الكفاءات الوطنية المستقلة، ويتمتع بخبرة طويلة في مجالات الطاقة والتدريب والإدارة، إلى جانب تأهيل أكاديمي متنوع في القانون والإدارة. ويرى عدد من المراقبين أن إعادة تكليفه ضمن الحكومة الجديدة المرتقبة بمهام الوزارة، قد يسهم في تعزيز الاستقرار الفني و الإداري لهذا القطاع، باعتباره قيادة متخصصة قادرة على تحويل الرؤية إلى واقع تنفيذي جاد و ملموس.
و يبقى السؤال: بحسب ما نراه من وجه الحقيقة، هل تمتلك الحكومة السودانية ،في ظل بيئة سياسية و اقتصادية هشة، ما يكفي من الإرادة و القدرة المؤسسية لترجمة هذه الرؤية و هذا العقد إلى واقع تنفيذي منتج؟ يسعف الناس سريعًا بإدخال 950 ميغاواط إلى الشبكة القومية التي ظلت تعاني منذ أن طالتها أيدي تمرد مليشيا الدعم السريع و داعميها العابثة.
دمتم بخير و عافية.
الثلاثاء 1 يوليو 2025م Shglawi55@gmail.com