
شكّلت مجزرة الصالحة جنوبي أم درمان علامة فارقة في سجل الانتهاكات الجسيمة ضد المدنيين في السودان، حيث جسّدت المذبحة انتقال جرائم مليشيا الدعم السريع من الانتشار الأفقي إلى “التوحش الرأسي النوعي” بحسب أحد الخبراء . ففي مشهد يهز الضمير الإنساني، أقدمت مليشيا الدعم السريع على تصفية (31) شاباً رمياً بالرصاص في ميدان عام، بدم بارد و أمام أعين الأهالي في انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني، مما يرقى إلى مرتبة جريمة حرب و جريمة ضد الإنسانية.
وفق شهادات شهود العيان و التقارير الأولية في الصحافة السودانية، داهمت عناصر المليشيا صباح يوم المجزرة ساحة عامة بمنطقة الصالحة، و أطلقت النار على عدد من الأسرى المدنيين. و مع إعلان شبكة أطباء السودان ارتفاع حصيلة الضحايا إلى (31)، اتسعت أصداء الجريمة، كاشفةً مدى التزامها بنصوص القانون الدولي و الإنساني.
تعهدت المليشيا في وقت سابق بمعاملة الأسرى وفق قوانين الحرب، إلا أن الوقائع الموثقة بالصوت و الصورة بيّنت أن هذه الوعود لم تتجاوز حدود الدعاية الإعلامية، ما يثبت نهجاً ممنهجاً في انتهاك حقوق الإنسان، حيث ظهرت قيادات ميدانية تتبع للمليشيا و هي تروي تفاصيل الجريمة مؤكدةً ارتكابها للمجزرة ما يفتح الباب أمام إمكانية مقاضاتهم.
جددت وزارة الخارجية السودانية إدانتها لميليشيا الدعم السريع ، على خلفية ارتكابها هذه المجزرة، داعيةً إلى تصنيفها جماعة إرهابية و محاسبة راعيتها الإقليمية. سياسيًا أدانت قوى مدنية و وطنية، منها حزب المؤتمر السوداني في سابقة أولية، و الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل، و حركة المستقبل للإصلاح و التنمية، و حزب الأمة الإصلاح، هذه الجريمة البشعة، محمّلين الدعم السريع المسؤولية الكاملة، و مطالبين المجتمع الدولي بالتحرك العاجل و تشكيل لجان تحقيق مستقلة و محاسبة كل الأطراف التي تواصل دعم المليشيا بالسلاح و العتاد.
بدورها، أصدرت الهيئة الصوفية القومية بياناً قوياً استند إلى أدلة مصورة و اعترافات من داخل صفوف مليشيا الدعم السريع، مما يعزز الاتهامات بارتكاب جرائم حرب و جرائم ضد الإنسانية بشكل متعمد و ممنهج.
عسكرياً، تزامنت المجزرة مع تقدم الجيش السوداني في غرب أم درمان، و سيطرته على معسكر “الكونان” و تقدمه نحو معسكر (الصالحة)، مما يرجح أن المليشيا أقدمت على تصفية الأسرى و المدنيين خشية سقوطهم أحياء في يد الجيش و كشف مزيد من الفظائع.
إن مجزرة (الصالحة) لا تمثل فقط انتهاكاً منفرداً، بل تدق ناقوس الخطر حيال مستقبل السودان، إذ تسهم المجازر و بث مشاهد التصفية العلنية في تفكيك النسيج الاجتماعي و نشر الهزيمة النفسية بين المدنيين. و في ظل صمت دولي مريب، يتعاظم السؤال الأخلاقي: ما جدوى منظومة القانون الدولي إذا مرت مذابح بهذا الحجم دون عقاب أو ردع؟ و إذا لم تُصنّف المليشيا كمنظمة إرهابية بعد كل هذا التوحش الموثق، فبأي معيار إذن يُحدد الإرهاب؟
إن تجاهل هذه الجرائم يشكل طعنة في مصداقية النظام الدولي، و يزيد من مأساة السودان الذي يقاتل اليوم معركتين؛ معركة البقاء ضد مليشيات الموت، و معركة استرداد الكرامة و العدالة التي لا تسقط بالتقادم. تظل دماء شهداء الصالحة، و من قبلهم ضحايا دارفور و سنار والجزيرة شاهداً أبدياً على حجم المأساة، و مشعلاً حيًا في معركة الحرية و الكرامة التي لن تخبو جذوتها حتى يتم تحرير جميع الأرض من دنس التمرد و داعميه المحليين و الإقليميين من أجل استعادة الأمن و تحقيق السلام.
في حضرة الدم المراق، و عبر ركام المدن المنكوبة، يبدو العالم و كأنه يختبر أقسى امتحاناته الأخلاقية، و هو يعلم بثبوت الدعم الإقليمي لهذه الحرب عبر عدد من المنظمات الحقوقية الإقليمية و الدولية. فعندما تُستهدف البيوت و المدارس و المستشفيات عمدًا، تُغتال الكرامة الإنسانية، و تتحول الحرب إلى جريمة، و يصبح السكوت عليها سقوطاً أخلاقياً و خذلاناً لا يليق بضمير الإنسانية.
هنا، تبرز أهمية القانون الدولي و الإنساني، الذي يؤكد أن حماية المدنيين و الأسرى أثناء النزاعات واجب قانوني لا يمكن تجاوزه، حيث تنص اتفاقيات جنيف لعام 1949 و البروتوكولات الإضافية لعام 1977 على ضرورة حماية المدنيين و الأسرى خلال النزاعات المسلحة، وتُعد الأعمال الوحشية مثل القتل المتعمد للأسرى أو المدنيين جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وفقًا لهذه المعايير، فإن ارتكاب مثل هذه الأفعال يعرض مرتكبيها للملاحقة أمام محكمة الجنايات الدولية، استنادًا إلى نظام روما الأساسي لعام 1998.
و بحسب ما نراه من #وجه_الحقيقة فإننا نستحضر قول هيجل: “الحرية لا تتحقق إلا من خلال القانون”، و أن غياب الالتزام بالقوانين لا يعني مجرد تجاوز للقانون، بل هو تدمير للحرية نفسها و تفكيك للقيم الإنسانية. كما أن الحرية لا تكمن في الفوضى، بل في التنظيم الذي يضمن الحقوق و العدالة. في هذا السياق، نأمل أن تواصل المؤسسات العدلية السودانية العمل الجاد في إثبات حقوق الضحايا، وتحقيق العدالة لهم، من خلال تطبيق القوانين المحلية و الدولية التي تضمن حماية حقوق الإنسان. سيكون هذا خطوة مهمة نحو استعادة الأمن و السلام في السودان، و تعزيز سيادته الوطنية على أسس من العدالة و الكرامة الإنسانية.
دمتم بخير و عافية.
الثلاثاء 29 أبريل 2025 م Shglawi55@gmail.com