مقالات الرأي
أخر الأخبار

وجه الحقيقة … الخرطوم تعود بهدوء الحسم و ذكاء الخطاب .. بقلم/ إبراهيم شقلاوي

في سياق إقليمي بالغ الحساسية، تعود الخرطوم مجددًا إلى الساحة السياسية والدبلوماسية، مدفوعةً بتحولات داخلية و ضغوط خارجية عبر مقاربة جديدة تتسم بقدر عالٍ من الاتزان السياسي و الحنكة في الخطاب الدبلوماسي. حيث عكست الجولة الأخيرة لرئيس مجلس السيادة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، التي امتدت من إشبيلية إلى القاهرة، ملامح هذا التحول في الأداء السياسي السوداني، بالنظر إلى تتقاطع رسائل السيادة الوطنية مع ضرورات إعادة التموضع الإقليمي في أوقات شديدة الحساسية.

في المؤتمر الدولي الرابع لتمويل التنمية، بدت مشاركة الرئيس البرهان اختبارًا لمدى قدرة السودان على استعادة موقعه في الخارطة الدولية من خلال طرح رؤية متماسكة تجاه إصلاح النظام المالي العالمي. و قد جاءت كلمته قصيرة و واثقة، رافضة التعامل مع السودان كدولة متلقية للمساعدات، في ما بدا وكأنه إعادة تموضع سياسي و رسالة صريحة مفادها أن السودان، المنهك من الحرب، ليس على استعداد لبيع سيادته مقابل فتات الدعم الدولي، بل يسعى إلى شراكات عادلة و متكافئة.

هذا الذكاء السياسي في الصياغة و الموقف لم يكن معزولًا عن الواقع، بل متصلًا به عبر سلسلة لقاءات ثنائية، أبرزها مع الرئيس العراقي عبد اللطيف جمال رشيد، والتي شكلت انطلاقة لانفتاح جديد في السياسة الخارجية السودانية، عنوانه تنويع الشركاء والانخراط المتوازن مع الفضاءين العربي والإقليمي بعيدًا عن المحاور الضاغطة والابتزاز السياسي.

و على طريق العودة، كانت القاهرة المحطة الأهم، إذ شكّلت زيارة البرهان و لقاؤه بالرئيس عبد الفتاح السيسي محطة مفصلية. فمصر التي تؤدي دورًا محوريًا في الملف السوداني، تواجه تحديات كبيرة في موازنة علاقاتها بين حليفها الإستراتيجي خليفة حفتر، قائد “الجيش الوطني الليبي”، و الضغوط التي تمارسها الإمارات، الداعم الأكبر لحفتر، على القاهرة.

يرى مراقبون بحسب إعلام محلي أن الموقف المصري بات يتأرجح بين ضغوط الإمارات، التي تدفع القاهرة لدعم حفتر و مليشياته في ليبيا، و بين الرؤية الإستراتيجية لمصر، التي تسعى إلى دعم الحكومة السودانية و تحقيق الاستقرار في السودان، بما يصب في خدمة الأمن القومي المصري خاصة فيما يتعلق بأمن الحدود و مياه النيل.

هذا التناقض تجلّى بوضوح في دعم حفتر لميلشيا الدعم السريع، التي دخلت المثلث الحدودي بسيطرة عسكرية على أراضٍ سودانية، ما أثار استغرابًا واسعًا في الأوساط السياسية و الإقليمية، و طرح تساؤلات حول جدية التزام القاهرة بتحالفها مع الخرطوم في ظل دعم مباشر تلقته المليشيات من قوات حفتر. هذا الوضع يضع مصر في موقف حرج، بين ولائها التقليدي لحفتر وضغوط حلفائها الإقليميين، وبين حاجة السودان إلى دعم مصري ثابت لإنهاء أزماته.

من هذا المنطلق، تكتسب زيارة البرهان إلى القاهرة أهمية خاصة، إذ تعكس مسعى الخرطوم لإعادة ترتيب الأوراق، وتعزيز التنسيق مع مصر، والتوصل إلى تفاهمات أمنية وسياسية تضمن احترام السيادة السودانية في المثلث الحدودي و تحصين العلاقات بين البلدين من أي اهتزازات قد تنجم عن تضارب المصالح.

اللقاء الذي جمع البرهان و السيسي في مدينة العلمين حمل رسائل واضحة بشأن التزام مصر بدعم وحدة السودان و استقراره في مواجهة التحديات الإقليمية، إلى جانب التوافق على ضرورة التنسيق المشترك لمواجهة أي تهديدات محتملة تمسّ الأمن المائي و الحدودي للبلدين.

وفي هذا السياق، كشفت مصادر مطلعة بحسب “منصة الخبر ” عن لقاء غير معلن ضمّ البرهان والمشير خليفة حفتر، بحضور السيسي. وإذا صحّ ذلك، فإنه يمثل أحد أبرز تجليات “دبلوماسية الضرورة”، التي تدفع الأطراف إلى فتح خطوط تواصل رغم التعقيدات والتدخلات. فمصر الحليف الوثيق لحفتر، تجد نفسها بين مطرقة الضغوط الإقليمية وسندان التزامها المعلن بدعم الدولة السودانية ومؤسساتها.

و تُدرك الخرطوم أنها لا تستطيع تجاهل التهديدات القادمة من حدودها الغربية، و أن الحوار مع القوى الفاعلة في الميدان بات ضرورة للحفاظ على الحد الأدنى من التوازن، خصوصًا في ظل تنامي التداخل بين ميلشيا الدعم السريع وقوات حفتر، و هو ما يُنذر بإعادة رسم خريطة النفوذ في المنطقة لصالح قوى لا تخدم استقرار السودان أو مصر.

يتضح من مجمل هذه التحركات أن السودان يسعى إلى إعادة تموضع متوازن بين الانفتاح الدولي والمصالح الإقليمية، مستفيدًا من دبلوماسية هادئة و فعالة يقودها البرهان، و مؤسسًا لمرحلة جديدة من التنسيق الإقليمي تقوم على الواقعية السياسية، والحوار المباشر و معالجة الملفات الأمنية بمنطق المصالح المتبادلة، لا بمنطق الوصاية أو المجاملة.

و في الداخل تبرز أهمية الإسراع في تعيين وزيرا للخارجية ضمن حكومة “الأمل” التي يقودها الدكتور كامل إدريس، بما يعكس انسجامًا بين المسارين السياسي والدبلوماسي. فالسودان بحاجة إلى صوت رسمي محترف ومتفرغ لإدارة تعقيدات المرحلة، وقيادة الملفات الخارجية بكفاءة في المحافل الدولية، ضمن ما يمكن تسميته بـ”معركة الخرطوم الدبلوماسية”.

و بحسب ما نراه من #وجه_الحقيقة، ومن دون ضجيج، تتحرك الخرطوم نحو إعادة صياغة موقعها السياسي بأسلوب متزن، يدمج بين الواقعية و الندية، و يوازن بين ضرورات الداخل و حسابات الخارج. في زمن التشظي والضغوط، تعود الخرطوم كفاعل سياسي يدير خلافاته و خياراته بحكمة، و يعيد رسم خطوط سياسته الخارجية بأدوات جديدة.. إذًا، الطريق بدأ يُرسم بوعي؛ هدوء في الحسم، و ذكاء في الخطاب.

دمتم بخير وعافية.
الأربعاء 2 يوليو 2025م
Shglawi55@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى