أصل القضية … السودان نموذجًا – حين تتجسد الدولة الوظيفية في الجغرافيا (٣-٤) .. بقلم/ محمد أحمد أبوبكر – باحث بمركز الخبراء العرب

تحالفات ما بعد الدولة… من يكتب السودان؟ ومن يُنطقه؟
بعد أن فككنا في الجزئين السابقين الأساس الفلسفي والبنية الجيوسياسية للدولة الوظيفية حان الوقت لنسقط هذا الفهم على أكثر النماذج تعقيدًا؛ السودان.
هنا، لا نتحدث عن نظرية، بل عن فريسة تنهش، وعن وطنٍ يُفرَّغ، وعن دولة تتنازعها الأدوات وتُقصى منها الإرادة.
السودان – بكل ما يحمله من تأريخ وكفاح وأمل – يقف اليوم أمام لحظة فارقة:
إما أن يتحوّل إلى كيان رسالي جامع، أو يُعاد صياغته كـ”شركة” تُدار وفق نموذج خارجي، وله مجلس إدارة معلن.
1️⃣ هل السودان دولة عقائدية أم وظيفية؟ ومنذ متى؟
السودان، منذ الاستقلال، تأرجح بين حلم العقيدة وكابوس الوظيفة.
فترات المد الوطني (عبود، النميري، الإنقاذ، الثورة) كانت تحمل طموح المشروع، لكنها سُرعان ما أُفرغت من الداخل، بفعل عوامل داخلية وخارجية.
> من الأمثلة على ذلك ما جرى في عهد المشير/جعفر نميري عندما حاول تقديم مشروع وطني متكامل في الهوية والتنمية لكنه اصطدم بتدخلات دولية ومحلية أفرغته من مضمونه. كذلك محاولات المشير عمر البشير في العام ٢٠١٥ عبر الحوار الوطني والذي أفضى إلى مجموعة نقاط كانت تكفي لاجتماع كل النخب السياسية والاجتماعية عليها.
■ ما بعد الثورة (٢٠١٩): بدأ التحول الحاد نحو الدولة الوظيفية، مع تغلغل بعثات أممية، وصناديق تمويل و “ورش” لصياغة مستقبل الدولة بيد قوى غير مفوضة شعبيًا.
> يكفي أن نشير هنا إلى دور بعثة اليونيتامس، التي تحولت من بعثة دعم انتقالي إلى منصة لصياغة التصورات السيادية بمرجعية أممية، لا وطنية.
2️⃣ من يُدير السودان حقًا؟ الداخل أم الخارج؟
السؤال لم يعد “من يحكم؟” بل “من يُشغّل من؟”
● قرارات مصيرية تُدار من غرف خارجية: اتفاقيات، حوار، هدن، مسارات.
● نخب سياسية تُمنح الشرعية لا من الشعب، بل من تقارير سفارات ومنصات دولية.
● مؤسسات الدولة إمّا منهارة أو مجيّرة بالكامل لخدمة أجندات لا تخدم الوطن.
> لتقريب الصورة، نُشير إلى اتفاقات كـ”مسار شرق السودان” و”ملاحق اتفاق جوبا”، التي رُسمت بعيدًا عن تفويض شعبي حقيقي، في بيئات تفاوض محكومة بتوازنات خارجية.
■ السلطة موزعة، القرار مشتت، والخارطة لا يعرف من يرسمها؟
3️⃣ تحالف “تأسيس” الدولة الجديدة: من يُعيّن الرئيس؟ ومن يصوغ الوطن؟
ظهور ما يُعرف بـ”تحالف تأسيس” (في بعض إصداراته المعلنة أو المسربة) يكشف بوضوح أننا أمام إعادة هندسة كاملة للدولة السودانية، لكن لا عبر التوافق الوطني، بل عبر إرادة فوقية تريد تصميم:
● رئيس دولة وظيفية: محمد حمدان دقلو – حميدتي، ممثل المشروع العسكري-المرتزق، بمرجعية الدعم الخارجي و النفوذ الجغرافي المفتوح.
● نائب عقائدي مفرغ من البعد السيادي: عبد العزيز الحلو، كواجهة لـ”الدولة العلمانية الفيدرالية” وفق رؤية يتم التفاوض عليها خارجيًا.
● ناطق رسمي بواجهة يسارية وظيفية – علاء الدين نقد، لتقديم غطاء “نخبوي-ثوري” يُسوّق دوليًا، ويُرضي المانحين.
> تتجه بعض الأطراف – داخلية وخارجية – إلى تسويق هذا النموذج بوصفه “تحالف الضرورة”، بينما هو في الحقيقة صيغة جاهزة صممت في دوائر الدعم والتمويل والتوجيه الخارجي.
هذه التشكيلة ليست توافقًا وطنيًا، بل محاولة لصياغة نموذج دولة وظيفية هجينة:
● فيها تمثيل للقبيلة،
● تمثيل للهوية العرقية،
● تمثيل لـ”النخبة”،
☆ لكن بلا هوية جامعة، ولا مشروع سيادي ولا تفويض شعبي.
4️⃣ لماذا تفشل المشاريع الوطنية في السودان؟
كل مشروع وطني وُلد في السودان – من مؤتمر الخريجين إلى الوثيقة الدستورية – أُجهض لأنه:
● لم يستكمل بنيته العقائدية.
● أو تم اختراقه وظيفيًا من الداخل.
● أو لأن القوى الدولية كانت ولا تزال تُفضّل “سودانًا ضعيفًا مُجزأً” يسهل التحكم فيه، على دولة ذات رؤية موحدة.
> خذ مثلاً “ميثاق إعلان الحرية والتغيير”، الذي بدأ بوعود تحوّل مدني، ثم سرعان ما تم احتواؤه ضمن سياق تفاوضي أُدير عبر آليات خارجية، وعُلّقت فيه الإرادة الوطنية.
إن غياب الدور الحقيقي للمجتمع المدني المرتبط بالوطن لا المانحين، عطّل إمكانية نشوء كتلة تغيير داخلية قادرة على التصحيح أو حتى الضغط، ما جعل الفضاء العام محكومًا بالكامل بأجندات الوكالات والمنصات العابرة للحدود.
5️⃣ الحرب في السودان: من يُقاتل من؟ ولماذا لا يُقاتل أحد لأجل السودان؟
● قوات تتلقى تمويلًا خارجيًا.
● حركات مسلحة لها مصالح اقتصادية وحسابات دولية.
● نخب تحضر في “ورش الخارج” أكثر مما تحضر في أحياء الخرطوم المنهارة.
● الحرب لا تُخاض من أجل السودان، بل تُستخدم ضد السودان، لتسريع انهيار الدولة الأصل وبناء كيان “قابل للتشغيل”.
> يكفي تأمّل تسريبات التمويل الإقليمي للحركات المسلحة، أو تصريحات السفير الأمريكي الداعمة لـ”جهات منفتحة على الحل”، لفهم طبيعة استخدام الحرب كأداة هندسية لا كصراع وطني.
في المقابل، ما تزال بعض المؤسسات الوطنية، وعلى رأسها الجيش السوداني، تقاوم هذا الانزلاق نحو الفوضى المؤسسية، رغم محاولات تفكيكها أو تجاوزها عبر المسارات البديلة. إن إبراز هذه النواة الصلبة ضرورة لفهم من تبقّى على خطوط الدفاع عن بقايا الدولة.
6️⃣ القانون والسيادة: هل نحن تحت الاحتلال الناعم؟
إذا كانت السيادة تُقاس بقدرتك على اتخاذ القرار دون إذن،
● فهل يملك السودان اليوم قراره؟
● هل يمكنه رفض اتفاق دولي لا يخدمه؟
● هل يمكنه تعيين مسؤول سيادي دون تدخل السفارات؟
● هل يمكن لمؤسساته القضائية والتشريعية أن تُعيد تعريف القانون وفق أولوياته الوطنية، لا وفق حُزم مشاريع جاهزة تأتي ضمن حوافز التمويل الأجنبي .
الجواب الصادم: نحن في حالة احتلال بلا دبابات… احتلال مؤسسي، تشريعي.
> لعل أوضح مثال لذلك، خضوع السياسات الاقتصادية – مثل تحرير الوقود – لشروط صندوق النقد الدولي، رغم الآثار الكارثية محليًا، ودون أن يكون للمواطن أو المشرّع السيادي أي دور فعلي.
7️⃣ هل من سبيل للخروج من الدولة الوظيفية؟
نعم… لكن بثمن، و بشروط:
١. إحياء العقيدة الجامعة: السودان ليس قبائل وأعراقًا، بل أمة ذات رسالة.
٢. إنتاج نخب وطنية لا تعيش على المنح: بل على مشروع وطني قابل للدفاع عنه.
٣. بناء مشروع سياسي سيادي: يُخرج البلاد من عقلية التبعية إلى فضاء الاستقلال الحقيقي.
> استعادة حيوية المجتمع المدني الوطني، من خلال مبادرات ذات تمويل ذاتي وأجندة محلية خالصة تفتح باب المشاركة الشعبية وتعيد للناس دورهم كمُكوّن سيادي أصيل.
٤. فك الارتباط مع مؤسسات التوجيه الخارجي تدريجيًا: لا نُعادي العالم، لكن لا نسمح له أن يصوغنا كيف يشاء.
> جاء نداء رئيس حزب بناة المستقبل – د. فتح الرحمن الفضيل – ليؤكد هذه الرؤية، داعيًا إلى تأسيس “برلمان مدني جامع”، يستند إلى الإرادة الشعبية و يساهم مع الدولة لبناء مشروع نهضوي داخلي، لا خارجي الصنع.
من أصل القضية إلى أصل الدولة،،
> إذا أردنا أن نكون دولة لا وظيفة، فعلينا أن نعيد كتابة الحكاية من أول السطر…
لا نحتاج فقط إلى حكومة جديدة، بل إلى رؤية جديدة، عقل جديد، قلب جديد، وعقيدة تؤمن أن السودان يستحق أن يُحكم من داخله، لا أن يُدار من خارجه.
الخطوة التالية في هذا الطريق هي بلورة مشروع متكامل يجمع ما بين دور المؤسسات الوطنية (كالقضاء، الجيش، المبادرات المدنية)، وما بين العقد الاجتماعي الجديد الذي ينشأ من الداخل، لا يُملى من الخارج.
إلى الجزء الرابع و الأخير…