
تشهد الحرب في السودان تطورات خطيرة تكشف عن تحول إستراتيجي في تكتيكات مليشيا الدعم السريع التي لجأت إلى استخدام الطائرات المسيّرة لاستهداف البنية التحتية الحيوية بعد تكبدها خسائر ميدانية كبيرة أمام الجيش السوداني. هذا التحول الذي يمكن وصفه بـ”الخطة ب” يعكس محاولة المليشيا الالتفاف على الفشل العسكري عبر تصعيد الهجمات على منشآت مدنية وخدمية تشكل عصب الحياة اليومية للسودانيين، في محاولة لزعزعة الاستقرار و إرهاق الحكومة سياسياً و اقتصادياً.
خلال الأيام الماضية شنت المليشيا سلسلة هجمات استهدفت منشآت الكهرباء الرئيسية، بما في ذلك سد مروي الذي تعرضت محطة توليد الكهرباء و المحولات فيه لأضرار كبيرة ما أدى إلى انقطاع التيار الكهربائي عن ولايات رئيسية مثل الخرطوم و البحر الأحمر. كما استهدفت محطة كهرباء الشوك التحويلية في ولاية القضارف، مما تسبب في انقطاع كامل للكهرباء عن ولايات القضارف و كسلا و سنار. لم تسلم المحطة التحويلية للكهرباء بخزان سنار من محاولات الاستهداف، حيث تمكنت المضادات الأرضية من التصدي للهجوم، بينما أدت الهجمات على محطة كهرباء دنقلا التحويلية إلى انقطاع كامل للكهرباء في المدينة . ولم يقتصر الأمر على ذلك ، إذ تم استهداف خط الكهرباء الناقل بين مروي والمرخيات ، علي أثر ذلك تعطل امداد محطة مياه المنارة ، متأثرة بتعطل إمداد الكهرباء مما حرم مئات الآلاف من مياه الشرب مضيفاً معاناة إضافية للمواطنين.
إن استهداف البنية التحتية المدنية يمثل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي الإنساني، و خاصة المادة 52 من البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 التي تحظر الهجمات على الأعيان المدنية. كما يُعد هذا النهج جريمة حرب بموجب المادة 8 من نظام روما الأساسي. و لكن رغم خطورة هذه الانتهاكات فإنها تعكس ضعفاً استراتيجياً لدى مليشيا الدعم السريع و فقدانها للبوصلة و أنها علي وشك الانهيار، بعد أن لجأت إلى تكتيكات الهجوم على المدنيين و البنية التحتية بعد عجزها عن تحقيق مكاسب ميدانية. هذا التكتيك يكشف عن محاولة المليشيا تحقيق مكاسب سياسية عبر إرباك الحكومة و زيادة الضغط الشعبي نتيجة تعطل الخدمات الأساسية أو ربما الضغط علي الحكومة للذهاب إلى تفاوض تريد العودة من خلاله للسلطة من جديد ، بالرغم من أن الشعب السوداني و حكومته قد طويا ملف المليشيا للأبد.
لكن الواضح أن هذه التطورات تطرح تحديات أمنية كبيرة أمام السودان ، خاصة في ظل تصاعد تهديدات الطائرات المسيّرة .و رغم امتلاك بعض المنشآت لأنظمة دفاع متطورة مثل سد مروي، إلا أن الهجمات الأخيرة تكشف عن ضرورة تعزيز القدرات الدفاعية، بما يشمل أنظمة التشويش المتطورة و المضادات الأرضية الأكثر كفاءة. كما يتطلب هذا الوضع تعاوناً إقليمياً و دولياً لضبط مصادر الإمداد التي تحصل منها المليشيا على التقنيات المستخدمة في هذه العمليات إلى جانب تعزيز المراقبة الحدودية و الجهود الاستخباراتية.
من جهة أخرى فإن التداعيات الاقتصادية و الاجتماعية لهذه الهجمات تزيد من عمق الأزمة السودانية. البنية التحتية المستهدفة تشكل شريان الحياة للزراعة و الصناعة و الخدمات، ما يجعل استهدافها سبباً في تعميق الأزمة الاقتصادية . انقطاع الكهرباء عن مدن رئيسية يؤثر بشكل مباشر على الإنتاج الزراعي و الصناعي، و يضاعف من تكلفة المعيشة بالنسبة للمواطنين. و في ظل هذا الواقع تصبح محاولات تعافي السودان من الحرب أكثر صعوبة، خاصة أن مثل هذه الهجمات تؤدي إلى إبطاء مشاريع التنمية و إضعاف ثقة المستثمرين و المجتمع الدولي في استقرار البلاد.
على الصعيد الدولي جاءت العقوبات الأمريكية الأخيرة ضد قائد مليشيا الدعم السريع (محمد حمدان دقلو) و شبكاته المالية كجزء من الجهود الرامية لتقويض قدرات المليشيا وتجفيف مصادر تمويلها . هذه العقوبات التي استهدفت شركات تابعة للمليشيا في الإمارات و دول أخرى، تمثل خطوة مهمة نحو تقليص قدرتها على تمويل عملياتها التخريبية ، بما في ذلك الهجمات بالطائرات المسيّرة. و تظهر هذه العقوبات أن المجتمع الدولي بدأ يأخذ على محمل الجد التهديدات التي تمثلها هذه المليشيا على استقرار السودان و المنطقة.
في السياق اقترح المهندس محجوب عيسى المدير العام السابق لمحطة التوليد بسد مروي، حلولاً تقليدية لحماية المحطات الكهربائية ، تعتمد على أعمدة خرسانية أو حديدية مع أسلاك شائكة، كما نجحت في السعودية. و دعا الغرف التجارية و اتحادات الزراعة و الصناعة و المحليات للمشاركة في تنفيذها لخفض التكاليف و حماية المحطات من الهجمات.
إن إنهاء الحرب في السودان واستعادة الاستقرار يتطلب جهوداً شاملة على المستويين العسكري و الدبلوماسي. يجب على السودان تعزيز قدراته الأمنية و العسكرية للتصدي لمثل هذه الهجمات، مع مواصلة الجهود لعزل المليشيا دولياً و محاسبتها على الانتهاكات التي ترتكبها بحق الشعب السوداني. كما أن إعادة بناء البنية التحتية التي تضررت خلال الحرب تتطلب دعماً دولياً و إقليمياً لضمان تعافي السودان و مساعدته في تجاوز هذه المرحلة الحرجة. هذا يقودنا إلى الحديث في مقال قادم عن المؤتمر الدولي لأعمار السودان الذي يجب أن تلزم به كافة الدول التي يثبت ضلوعها في اشعال هذه الحرب.
هذا و بحسب ما نراه من وجه الحقيقة فإن استمرار المليشيا في استهداف البنية التحتية لن يؤدي إلا إلى زيادة معاناة الشعب السوداني وتعطيل مساعي السلام و التنمية. الحرب لم تعد مجرد صراع عسكري بل أصبحت تهديداً شاملاً لمستقبل السودان و استقراره. لذا، فإن حسم هذا الصراع وفقًا لتقديرات الجيش السوداني ضرورة حتمية لحماية الوطن و المواطنين وضمان مستقبل أكثر إمنا للسودان. مع أهمية أن يتوحد السودانيين جميعا دون إقصاء للعبور ببلد موحد إلى اليوم التالي من الحرب.
دمتم بخير وعافية .
الثلاثاء 21 يناير 2025م Shglawi55@gmail.com