مقالات الرأي
أخر الأخبار

أصل القضية … التحولات الكبرى: مؤشرات الحرب والصمود الدولي .. بقلم/ محمد أحمد أبوبكر

يبدو أن العالم قد دخل مرحلة جديدة من التحولات العميقة، حيث لم يعد الحديث عن الحرب مجرد تكهنات، بل أصبح واقعًا يتجلى في سياسات الدول واستعداداتها الاستراتيجية. حين تقرر فرنسا، الدولة المحورية في المنظومة الغربية، توزيع “دليل البقاء على قيد الحياة” على مواطنيها، فإن الرسالة تتجاوز مجرد توجيه إرشادي؛ إنها مؤشر على أن النظام الدولي يشهد تغيرات جوهرية، تستدعي إعادة التفكير في مفهوم الأمن القومي والدولي. فهل نحن أمام مشهد يعيد تشكيل النظام العالمي؟ وما أثر ذلك على الأمم المتحدة والمنظمات الدولية؟ وكيف سينعكس هذا الواقع على السلم والأمن الدوليين؟
أولًا: تصاعد النزعة الأمنية – من الخطاب إلى التنفيذ
* التاريخ يخبرنا أن الدول تبدأ بتعديل عقيدتها الأمنية عندما تشعر بتهديد وجودي حقيقي. توزيع دليل البقاء في فرنسا ليس مجرد إجراء وقائي، بل يعكس تحولات هيكلية في مفهوم الدولة الحديثة تجاه أمن مواطنيها. فبعد عقود من تبني نظريات الأمن الجماعي والتكامل الدولي، تعود الدول إلى منطق الاعتماد على الذات وتعزيز قدرة الشعوب على الصمود، وهو تحول يحمل دلالات عميقة:
* تآكل الثقة في النظام الدولي: لم تعد الدول الكبرى، حتى داخل المعسكرات التقليدية كالاتحاد الأوروبي، تراهن بشكل مطلق على التحالفات والمنظمات متعددة الأطراف لحماية أمنها.
* بروز مفهوم “المناعة الاستراتيجية”: أصبح التركيز على بناء مجتمعات قادرة على تحمل الصدمات الكبرى، سواء كانت عسكرية، اقتصادية، أو حتى سيبرانية.

* إعادة تعريف التهديدات: لم تعد الحروب التقليدية هي السيناريو الوحيد المطروح، بل أصبح الأمن القومي يشمل الكوارث البيئية، الهجمات السيبرانية، والأزمات الاقتصادية العالمية.
ثانيًا: أثر هذه التغيرات على الأمم المتحدة والمنظمات الدولية
* في ظل هذه التحولات، يصبح من المشروع التساؤل عن دور الأمم المتحدة والمنظمات الدولية. فهل يمكنها الحفاظ على دورها كحارس للسلم والأمن الدوليين، أم أن النظام العالمي يتجه نحو مزيد من التفكك؟
* تآكل فاعلية مجلس الأمن: مع تصاعد الاستقطاب بين القوى الكبرى، يصبح مجلس الأمن أكثر عجزًا عن اتخاذ قرارات حاسمة. فالصراعات الحديثة أصبحت تدار بأساليب غير تقليدية، يصعب تصنيفها ضمن تهديدات الأمن الجماعي وفق الميثاق الأممي التقليدي.
* إضعاف دور القانون الدولي: مع عودة الدول إلى تعزيز الأمن الذاتي، قد نشهد موجة جديدة من تجاهل القرارات الأممية، كما حدث في حالات عدة مثل أوكرانيا، سوريا، والسودان.
* صعود النزعات القومية على حساب التعددية الدولية: هناك ميل متزايد للانسحاب من الالتزامات الدولية، كما ظهر في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والتوجهات الحمائية في السياسة الأمريكية.
ثالثًا: انعكاسات هذا الواقع على السلم والأمن الدوليين
إذا كانت الدول الكبرى بدأت بالفعل في تهيئة شعوبها لمواجهة أزمات كبرى، فإن هذا يعني أن العالم يتجه نحو مرحلة من عدم اليقين الاستراتيجي، مما ستكون له تداعيات خطيرة على السلم الدولي:
* تزايد سباق التسلح: تعزيز قدرات الصمود الوطني لن يكون محصورًا في الإرشادات المدنية، بل سيترافق مع سباق تسلح جديد، يشمل المجال النووي، الدفاع السيبراني، وتقنيات الحرب غير التقليدية.
* اشتداد الصراعات الهجينة: الحروب القادمة لن تكون فقط تقليدية، بل ستكون حروبًا هجينة تشمل العقوبات الاقتصادية، الهجمات السيبرانية، والحروب بالوكالة.
* تصاعد الأزمات الإقليمية: في ظل الانسحاب التدريجي للقوى الكبرى من الالتزامات الدولية، ستكون هناك بيئة خصبة لاندلاع نزاعات محلية وإقليمية، دون وجود مظلة ردع دولية حقيقية.
أصل القضية : نحو نظام عالمي جديد؟
العالم في مرحلة مخاض لنظام جديد، حيث لم يعد بالإمكان التعويل على المنظمات الدولية لضمان الأمن الجماعي. إن انتشار ثقافة الصمود الذاتي يشير إلى أن الدول تستعد لسيناريوهات غير مسبوقة، قد تتجاوز نمط الحروب التقليدية نحو أشكال جديدة من الصراعات. فهل نحن أمام انهيار للنظام الدولي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية؟ أم أن هذه التحولات مجرد مرحلة انتقالية نحو توازن قوى جديد؟
ما هو مؤكد أن المستقبل لن يكون امتدادًا للماضي، بل هو مساحة لصياغة مفاهيم جديدة للأمن الدولي. ولعل السؤال الأهم الآن: كيف يمكن لدول العالم الثالث، ومنها السودان، أن تتموضع استراتيجيًا في ظل هذا المشهد المعقد؟ هل تكون مجرد ساحة للصراعات، أم تستغل التحولات لصياغة مسارها الخاص؟
هنا يكمن التحدي الأكبر، وهنا تبدأ معركة البقاء في النظام العالمي الجديد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى