
في المشهد السوداني المتقلب، تبرز التكايا كمظهر إنساني ظاهري، لكنها تحمل في طياتها أبعادًا أعمق تتجاوز إطعام الجوعى إلى تسخير الحاجة الإنسانية في لعبة السياسة. ففي المناطق المحررة حديثًا، نشهد تهافتًا محمومًا من جهات متعددة، بعضها يرتدي عباءة الإنسانية، لكنه يضمر أجندات سياسية، وأخرى تستغل العمل التطوعي للتكسب الشخصي أو لتحقيق مكاسب نفوذ وتأثير.
التكايا: من الإغاثة إلى السيطرة
لطالما كانت التكايا في السودان رمزًا للتكافل الاجتماعي، لكن استخدامها اليوم في سياق الحرب الراهنة يضعها في خانة التساؤلات. فهل هي وسيلة لسد حاجة المتضررين، أم أنها باتت وسيلة لشراء الولاءات وفرض الهيمنة؟ فالمساعدات التي يُفترض أن تكون بلا شروط، تُوزَّع اليوم وفق اعتبارات سياسية، وأحيانًا تُستخدم أداة لابتزاز المواطنين، لتتحول من وسيلة إنقاذ إلى سلاح للضغط والتمييز.
قحت وأخواتها: ازدواجية الخطاب
قوى الحرية والتغيير ، وتوابعها من المنصات والتنظيمات، ظلت ترفع شعارات الديمقراطية والعدالة، لكنها في ذات الوقت لم تتردد في تقديم الشعب السوداني قربانًا لطموحاتها السياسية. واليوم، نجدها حاضرة في المشهد الإغاثي، ليس بدافع إنساني خالص، وإنما بغرض التموضع السياسي في مرحلة ما بعد الحرب. هذه القوى تتغذى على الأزمات، وتستثمر في الحاجة، فبدلًا من أن تكون جزءًا من الحل، تحولت إلى جزء من المشكلة. فغرف الطواريء التي تنتشر أثناء وبعد دخول الجيش من هم؟؟؟، فالاسماء فضفاضة تارة بالشرفاء وتارة أخرى لجنة أطباء أو تجمعات … الخ ما يطرح الف علامة استفهام ؟؟؟؟
المواطن السوداني بين المطرقة والسندان
المواطن، الذي أنهكته الحرب وشردته الصراعات، بات عالقًا بين مطرقة الفاقة وسندان الاستغلال. فمن جهة، القوات المسلحة تخوض معركة الكرامة لتحرير الأرض، ومن جهة أخرى، النخب السياسية تتعامل مع هذا التحرير وكأنه فرصة سانحة لترسيخ نفوذها، عبر استغلال المعاناة لإعادة إنتاج خطابها السياسي المهترئ.
البديل: إعادة الاعتبار للعمل الإنساني
إذا كان ثمة حاجة لإعادة بناء السودان، فيجب أن يبدأ ذلك من إعادة تعريف دور العمل الإنساني، بحيث يكون قائمًا على مبادئ النزاهة والشفافية، بعيدًا عن التوظيف السياسي. لا يمكن السماح بأن يصبح العمل التطوعي سوقًا للمساومات، ولا أن تتحول التكايا إلى منصات للتحشيد والتجنيد السياسي. المطلوب هو دولة قوية، تحكمها المؤسسات، لا نخبة سياسية تتاجر بمعاناة الناس للوصول إلى الحكم.
أصل القضية : إلى متى؟
إلى متى تظل النخب السياسية تقدم الشعب السوداني قربانًا لمغامراتها؟ إلى متى يبقى الوطن رهينة لأجندات انتهازية تتخذ من المعاناة سلمًا للصعود؟ الشعب السوداني بحاجة إلى قيادة تدرك أن الحكم تكليف، وليس غنيمة، وأن معركة البناء لا تقل أهمية عن معركة التحرير. السودان لن يُبنى بالشعارات الجوفاء، ولا بالمساعدات المشروطة، وإنما بإرادة وطنية خالصة، لا ترى في المواطن وسيلة، بل غاية.
معركة الكرامة ليست فقط عسكرية، بل هي أيضًا معركة لاستعادة سيادة القرار السوداني من براثن الانتهازيين، وهي معركة يجب أن يخوضها الشعب بوعي، حتى لا يجد نفسه مرة أخرى، مجرد ورقة في يد قوى لا ترى فيه سوى وسيلة لتحقيق مآربها.