أصل القضية … السودانبين بين أنياب الصهيونية وعبقرية الشعب .. محمد أحمد أبوبكر

في زمنٍ تنحسر فيه السيادة أمام أمواج المصالح، ويعلو فيه صوت القوة على صوت الحق، يخرج السودان من رحم المحن، لا كدولة تسعى لمكان تحت الشمس، بل كشعبٍ يكتب المعادلات من جديد.
هذا السودان – المتخم بالجراح لكنه مشبع بالعزة – لا يقف في مواجهة أمريكا وحدها، بل يقف على جبهة تمتد من واشنطن إلى تل أبيب، في معركة معقدة تتقاطع فيها المصالح الصهيونية، مع شهوة السيطرة، و عقيدة الإخضاع، و تلك اليد الخفية التي تسعى لتفكيك ما تبقّى من الإرادة الحرة في جنوب العالم.
السودان بين مطرقة “الشعبوية الجديدة” و سندان الهيمنة الصهيونية
السياسة الأمريكية في حقبة ترامب – وما تلاها – لم تكن مجرد سياسات آنية، بل مثلت تحوّلًا جوهريًا في نمط التفكير الأمريكي تجاه الدول الخارجة عن نطاق الطاعة. لم تعد واشنطن تخفي أجندتها، ولم تعد تغلّف شروطها بالدبلوماسية. بات الخطاب فظًا، صريحًا، قائمًا على الابتزاز: إما أن تنفذ، أو تُعاقب.
في قلب هذه العقلية، تتموضع الصهيونية العالمية ليس كمجرد فاعل خارجي، بل كمنظومة نفوذ تشارك في صنع القرار، وتعيد ترتيب أولويات السياسة الأمريكية بما يخدم أجندتها التوسعية – سواء في الداخل الأمريكي، أو عبر خلق مساحات رخوة قابلة للاختراق في دول الجنوب.
وحين وقع الاختيار على السودان كحلقة اختبار، لم يكن ذلك اعتباطًا. لقد رأوا فيه دولة ذات موقع استراتيجي، وثروات متجددة، ومجتمع نابض، و تجربة نهوض حديثة لا تزال تلهم. و لأنهم يعلمون أن الشعوب الخارجة من لحظة وعي نادرة، يصعب تطويعها، قرروا أن تكون أدواتهم: الضغط الاقتصادي، العزلة السياسية، و “صفقات مشروطة” عنوانها الظاهر التنمية و هدفها الحقيقي الإخضاع.
المقاومة الشعبية: حين يستفيق الوعي قبل أن تتحرك الجيوش:
لكن ما لم تحسبه تلك العقول في واشنطن و تل أبيب، أن السودان لم يكن دولة نائمة. كانت فيه يقظة ممتدة، صاعدة، لا تُرى في نشرات الأخبار، لكنها تتنفس في كل مدينة و قرية، في كل أمٍ رفضت أن يُباع مستقبل أبنائها، في كل شابٍ تمسك بفكرة في كل امرأةٍ وقفت كالسند.
السودان لم يكن ينتظر أحدًا لينقذه، بل صنع طريقه بنفسه. ومن لحظة مفصلية في تاريخه، استيقظ أبناؤه وبناته، وتحولوا من مراقبين إلى فاعلين، من مجرد ضحايا للسياسات الدولية إلى شركاء في كتابتها من جديد.
لم تكن المقاومة مجرد احتجاجات، بل كانت وعيًا يُعاد تشكيله. لم تكن لحظة غضب، بل كانت إعلانًا جماعيًا بأن السودان لا يُدار من الخارج، وأن من فيه، هم وحدهم أصحاب القرار.
لماذا يستهدفون السودان؟
لأن موقعه مفصلي في صراع الممرات و النفوذ؛ البحر الأحمر، النيل، الذهب، الزراعة… كلها عناصر تجعل من السودان دولة لا يجوز – في نظرهم – أن تكون حرة القرار.
لأن شعبه يتقن التحول من الألم إلى أمل: التجارب علمته أن الكرامة لا تُمنح، و أن القرار الوطني لا يُستورد، بل يُنتزع.
لأن نهضته تعني سقوط النموذج التابع: نموذج الدولة التي تتلقى، لا تنتج؛ التي تُدار، لا تختار.
حين تصبح المقاومة عقلًا جمعيًا لا يُشترى:
ما يميز المقاومة السودانية أنها لا تسير في خط عشوائي، بل تنمو في العمق، و تتنوع في أدواتها من الوعي المجتمعي إلى الإعلام، من الفن إلى الاقتصاد المحلي، من النضال في القرى إلى رفض الإملاءات في العواصم. إنها مقاومة لا ترتدي زيًا واحدًا، لكنها تتكلم لغة واحدة: السيادة حق، لا منحة.
هؤلاء الذين أرادوا للسودان أن يكون جسرًا لهم إلى القارة، نسوا أن الجسر قد يكون سلاحًا إذا امتلكه أهله. و أن الموارد، إن لم تُهدَر، قد تتحول إلى قوة تفاوضية. و أن الشعب الذي نهض مرة، لا يعود كما كان.
كيف نواجه؟ وما العمل؟
١. بناء مشروع وطني عابر للأحزاب و المراحل.
مشروع يُعلي من قيمة السيادة، ويجعل من الشعب مركز القرار، لا مجرد متلقٍ له.
٢. إنتاج خطاب استراتيجي يواجه سردية الهيمنة.
علينا أن ننتج روايتنا، لا أن نكتفي بالرد على روايات الآخرين.
٣. فتح خطوط التواصل مع القوى الحرة عالميًا.
هناك داخل أمريكا من يرفض عقلية ترامب و يمقت الصهيونية السياسية – فلنتحالف مع الأحرار لا مع الحكومات فقط.
٤. حماية الذاكرة الوطنية وإعادة كتابة التاريخ بلغة الانتصار.
ليس المطلوب تمجيد الماضي، بل استثماره في بناء المستقبل.
أصل القضية: السودان ليس الضحية… إنه المُلهِم
ما يحدث اليوم ليس صراعًا تقليديًا؛ إنه اختبار عالمي لإرادة الشعوب. والسودان، رغم كل شيء، لا يزال واقفًا. لأن فيه شعبًا يعرف متى يصمت، و متى ينهض، ومتى يساوم، و متى يقول: لا.
إنه بلدٌ لا يزال يكتب، لا بمداد السياسة فقط، بل بأصوات الناس، و بنظرات الأطفال الذين يريدون وطنًا لا يُباع و بأحلام أجيالٍ تؤمن أن الطريق ،و إن طال، لا يُختصر بالخنوع.
السودان اليوم لا يسير خلف أحد… إنه يقود. و المقاومة الشعبية ليست مجرد لحظة، بل مشروع حياة.