مقالات الرأي
أخر الأخبار

أصل القضية … ترامب… “قورباتشوف” العالم الجديد؟ .. بقلم/ محمد أحمد أبوبكر

حينما تعصف الأحادية الأمريكية بموازين الجيوبوليتيك العالمي تكون القيادة في لحظة التفكك وتحلل النظام…في ذروة الحرب الباردة، كان ميخائيل قورباتشوف يحمل حلم الإصلاح لكنه ـ من حيث لم يحتسب ـ فجر نهاية إمبراطورية. واليوم، يقف دونالد ترامب في منعطف مماثل؛ لا كزعيم يعيد ترتيب الداخل الأمريكي فحسب، بل كمحرك لانهيارات وتحولات جيوسياسية وجيوأمنية تمتد من الخليج إلى القرن الإفريقي، ومن بكين إلى جزر قاحلة في جنوب المحيط الهندي.
فهل نحن أمام “قورباتشوف أمريكي” يعيد رسم الخرائط لا عن قصد الإصلاح، بل عبر إدمان الصدام والتفرد؟

ترامب والعقوبات: خنق الأعداء… وتفجير الحلفاء:
إدراج الولايات المتحدة لسبع شركات إماراتية على لائحة العقوبات المرتبطة بالسودان، ليس مجرد إجراء قانوني، بل هو مؤشر على تشعب الرؤية الترامبية التي باتت تتعامل مع الحلفاء بعين الريبة، وكأنها تهيئ المسرح لصراع شامل على الموارد والتأثير.
هذا التوسع في نطاق العقوبات ليشمل كيانات لا علاقة مباشرة لها بالنزاع السوداني، يكشف تحولا استراتيجياً في أدوات واشنطن: من الحرب الناعمة إلى خنق رقعة أوسع من اللاعبين الإقليميين، بمن فيهم من يحاولون التوسط أو الحياد. الرسالة واضحة: من ليس معنا، تحت الشبهة.

حرب الجمارك: البندقية الاقتصادية الجديدة:
حين تفرض واشنطن 34% رسوماً جمركية على الصين، ثم ترد بكين بنفس النسبة، ندخل رسمياً عصر “الجمركة كسلاح دمار شامل”. وما يزيد الأمر غرابة، أن قائمة ترامب الجمركية تشمل جزرًا مهجورة ومناطق لا تمتلك أي بنية اقتصادية — مجرد إشارات رمزية إلى أن أمريكا لا تفرّق بين عدو وصديق، كبير أو صغير.
هذا التصعيد الاقتصادي ليس ضريبة سياسية فقط، بل إنه ينذر بتفكك السلاسل الإنتاجية العالمية، وتفاقم الركود، واندلاع سباق للبحث عن ملاذات آمنة. إنها قنبلة اقتصادية تتشظى في جميع الاتجاهات، تصيب الدولار والنفط والأسهم والتكنولوجيا معًا.

السودان في قلب العاصفة: بين المطرقة الأمريكية والسندان الصيني:
في هذا العالم المزدوج التوتر، يجد السودان نفسه هدفاً غير مباشر للحرب الاقتصادية الكبرى. واشنطن تعاقب، وبكين ترد، والسودان — بشركاته العابرة للحدود — يتحول إلى ساحة اختبار لنفوذ القوى العظمى.
العقوبات على الشركات الإماراتية المرتبطة بالسودان ليست مسألة مالية فقط؛ بل هي رسالة جيوسياسية موجهة للإمارات، لمصر، وحتى للقرن الإفريقي بأسره: لا استثمارات دون موافقة، ولا تجارة دون إذن، ولا موارد دون إشراف أمريكي.
وفي المقابل، فإن تشديد الصين لقيود تصدير المعادن النادرة — المستخدمة في بطاريات السيارات وشرائح الحواسيب — يضرب في الصميم طموحات أي دولة إفريقية تحاول أن تصعد تقنياً، أو تراهن على شراكات بديلة.

الأثر الجيوأمني: تشظيات في الشرق الأوسط والقرن الإفريقي:
ترامب، من خلال نظرته الاقتصادية الانعزالية والمواجهة التجارية المفتوحة، يعيد تشكيل المسرح الأمني والسياسي في المنطقة. فالشرق الأوسط لم يعد فقط أرض صراعات أيديولوجية أو دينية، بل بات رهينة لحسابات اقتصاد الكبار.
القرن الإفريقي، والسودان تحديدًا، يتحولان إلى ساحة تجريب لسياسات الردع المالي والرقابة على الاستثمار، مما يفتح المجال أمام لاعبين جدد: تركيا، روسيا، وربما إيران. وكلما ضاقت مساحة المناورة الاقتصادية، زادت احتمالات الانزلاق نحو العنف أو اللجوء لمحاور مضادة.

أصل القضية: حين يسقط قورباتشوف، تنهض روسيا… فماذا عن أمريكا؟
مثلما أطاح قورباتشوف بالإمبراطورية السوفييتية عبر سعيه للإصلاح دون إدراك لقوى التفكك الداخلية، يبدو أن ترامب، بدعوته لـ”أمريكا أولاً”، يطلق مسارًا قد يؤدي إلى “أمريكا لوحدها”، وربما… “أمريكا المنهكة”.
لكن الأثر الأخطر ليس على واشنطن وحدها، بل على الخرائط التي يعاد تشكيلها ببطء، والخطوط التي ترسم بالأقمار الصناعية، والموارد التي تُؤمّم دون أن يُعلن ذلك.
السودان، وأفريقيا، والشرق الأوسط، هم اليوم ليسوا ضحايا للحروب المباشرة، بل لساسة يصنعون العاصفة من وراء الأبواب، بأسلحة جديدة: العقوبات، الرسوم، واحتكار التقنية.
فهل نحن مستعدون لقراءة المشهد كما هو، أم سننتظر انهيار الجدران كما حدث في برلين، لندرك متأخرين أن ترامب لم يكن سوى “قورباتشوف بنسخة رأسمالية متوحشة”؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى