أصل القضية … تصفير العداد في السودان: تعديل الوثيقة الدستورية وسيناريوهات ما بعد حكومة المنفى .. بقلم/ محمد أحمد أبوبكر

في اللحظة التي يتحرر فيها السودان من قبضة مليشيا الدعم السريع، يقف عند مفترق طرق حاسم، ليس فقط من حيث المعركة العسكرية بل من حيث مستقبل الدولة السياسي. إن آخر نقطة عند (أم دافوق) ليست مجرد نهاية لتمرد مسلح، بل بداية لمرحلة جديدة تتطلب رؤية عميقة و قراءة استراتيجية تنطلق من تعديل الوثيقة الدستورية و إعادة ترتيب المشهد السياسي بما يخدم أولويات المرحلة الانتقالية.
دحر الدعم السريع: بداية جديدة أم إعادة إنتاج للأزمات؟
مع دحر مليشيا الدعم السريع و اقتراب التخلص من الخطر الذي كانت تمثله، تبرز تساؤلات أساسية حول كيفية التعامل مع المشهد السياسي ما بعد الحرب. فبينما يسعى مجلس السيادة و مجلس الوزراء إلى إحداث تغييرات جذرية في الوثيقة الدستورية، بما يشمل حذف أي إشارة للدعم السريع و قوى الحرية و التغيير، يتعين التفكير في كيفية بناء مرحلة جديدة تستند إلى قراءة إستراتيجية عميقة للمصالح الوطنية.
تصفير العداد هنا ليس مجرد إجراء شكلي، بل هو بداية لإعادة ضبط المشهد السياسي وفق أولويات جديدة، تعيد تشكيل الدولة وت حقق توازنًا بين الاستقرار الداخلي و المصالح الخارجية بعيدًا عن القوى التي تسعى إلى عرقلة مسار الدولة عبر محاولات خارجية لتكوين حكومة المنفى.
الوثيقة الدستورية: إعادة البناء من الجذور
الخطوة التي اتخذها مجلس السيادة بتعديل الوثيقة الدستورية ليست سوى الخطوة الأولى في عملية شاملة تهدف إلى إعادة بناء السودان. و لكن السؤال هنا: ما هو محتوى هذه التعديلات؟ و ما هي الأولويات التي يجب أن تؤخذ في الاعتبار؟
أبرز التعديلات تتمثل في إزالة كل ما يشير إلى مليشيا الدعم السريع، و هي خطوة ضرورية، ليس فقط لتصفية المشهد السياسي من قوى الارتزاق و الخيانة، بل أيضًا لضمان أن يكون الجيش السوداني هو القوة الوحيدة الممسكة بزمام الأمن. إزالة أي إشارة إلى قوى الحرية و التغيير تعكس أيضًا وعيًا بتفكيك التحالفات الهشة التي لم تستطع الصمود أمام الأزمات، و تمهيدًا لخلق تحالفات جديدة تقوم على أسس وطنية قوية.
مرحلة ما بعد أم دافوق: إعادة رسم الخارطة السياسية:
مع سقوط آخر معقل للدعم السريع عند (أم دافوق) يجب أن نتساءل: ما هي معالم المرحلة المقبلة؟ و كيف سيتم ترتيب الأولويات الوطنية؟. هناك عدة سيناريوهات تبرز على الساحة، و كلها ترتكز على فكرة واحدة: السودان بعد الحرب ليس كما كان قبلها:
١. إعادة بناء مؤسسات الدولة: المرحلة الأولى تتطلب إعادة بناء مؤسسات الدولة التي تضررت خلال الفترة الماضية. لا يمكن للسودان أن يستمر على نفس الأسس التي انهارت في ظل الحرب؛ هناك حاجة لإعادة هيكلة شاملة، تبدأ من القضاء على الفساد و المحسوبية وصولًا إلى خلق مؤسسات حكومية فعالة و قادرة على إدارة الدولة.
٢. خلق تحالفات سياسية جديدة: إزالة القوى السياسية التي فشلت في إدارة المرحلة السابقة يجب أن تتبعها تحالفات سياسية جديدة تقوم على مبادئ الوطنية و الشفافية. السودان بحاجة إلى قوى سياسية لا تعمل لمصالح خارجية أو ترتزق من الصراعات، بل تركز على بناء مستقبل البلاد.
٣. الجيش السوداني كحامٍ للسيادة: دحر مليشيا الدعم السريع يؤكد مرة أخرى على أن الجيش هو القوة الأساسية التي يمكن الاعتماد عليها في حماية سيادة الدولة. المرحلة المقبلة يجب أن تعزز من دور الجيش ليس فقط كقوة عسكرية، و لكن أيضًا كضامن لاستقرار النظام السياسي. أي محاولة لخلق قوى موازية، سواء كانت عبر مليشيات أو تحالفات خارجية، ستؤدي إلى إعادة إنتاج الفوضى.
سيناريو حكومة المنفى: ورقة خاسرة
في خضم هذه التحولات، تحاول قوى الدعم السريع و حلفاؤها خلق سيناريو بديل عبر حكومة المنفى. لكن هذا السيناريو يبدو غير واقعي، فبعد دحر الدعم السريع و فشل قوى الحرية و التغيير في إدارة المرحلة الانتقالية، لا يوجد سند شعبي لهذه الحكومة. الشعب السوداني، الذي التف حول جيشه في أصعب اللحظات، لن يقبل بمحاولة إعادة إنتاج الفوضى عبر حكومة مفروضة من الخارج.
حكومة المنفى هي ورقة خاسرة لن تتمكن من فرض نفسها على المشهد السياسي السوداني، و ذلك ببساطة لأن الشعب اختار طريقه؛ الاستقرار و السيادة الوطنية تحت راية جيشه. هذا لا يعني أن الطريق سهل، لكنه بالتأكيد يعني أن محاولة فرض حكومات مرتزقة لن تكون جزءًا من الحل.
استراتيجية الجسر و المورد: قراءة في المستقبل
في هذا السياق، تبرز استراتيجية الجسر و المورد كأداة تحليلية لفهم كيفية التعامل مع المرحلة القادمة. “الجسر” هنا هو قدرة السودان على بناء تحالفات جديدة قائمة على المصالح المشتركة و ليس على الاسترزاق أو الخيانة. أما “المورد”، فهو الثروات الطبيعية و البشرية التي يمتلكها السودان، و التي يجب استغلالها بشكل يحقق التنمية المستدامة و يمنع استغلالها في صراعات لا تخدم سوى القوى الخارجية.
السودان يحتاج إلى إعادة ضبط علاقاته الخارجية بما يضمن مصالحه الوطنية، فبينما يستفيد من تحالفاته الدولية، يجب أن يكون حذرًا من أي محاولات لاستنزاف موارده أو التلاعب بسيادته. الاستفادة من موارد السودان في إطار تحالفات استراتيجية سليمة هي الضمانة الأساسية لمستقبل البلاد.
أصل القضية: السودان أمام فرصة تاريخية
بعد دحر مليشيا الدعم السريع، السودان يقف أمام فرصة تاريخية. تعديل الوثيقة الدستورية وتصفير العداد ليسا مجرد خطوات قانونية، بل هما إعلان بداية جديدة للسودان، فرصة لإعادة بناء الدولة من الأساس، و إنهاء مرحلة الفوضى و الارتزاق.
على الشعب السوداني أن يدرك أن مستقبله يكمن في وحدته حول جيشه و مؤسساته الوطنية، و في السعي لتحقيق الاستقرار و التنمية بعيدًا عن سيناريوهات الخيانة التي تمثلها حكومة المنفى. استراتيجية الجسر و المورد تقدم لنا خارطة طريق واضحة للمستقبل: الاستقرار و السيادة أولًا، و أي محاولة للعودة إلى الوراء ليست إلا خطوة نحو الفوضى.
السودان اليوم أمام فرصة لإعادة بناء نفسه من جديد، فرصة تتطلب شجاعة سياسية و رؤية استراتيجية تستند إلى قيم الوطن و مصالحه العليا.