أصل القضية .. صوت من بين الأنقاض: أوباما يحذّر… والجسر يترنّح .. بقلم/ محمد أحمد أبوبكر

في زمنٍ تتساقط فيه أقنعة الخطاب، ويعلو صخب المصالح على همس المبادئ، صعد باراك أوباما، الرئيس الأميركي السابق، من على منبر كلية هاميلتون لا ليخطب كسياسيٍ عابر، بل لينذر كمن شهد الزلازل من قلبها. خطابه لم يكن مجرد تسجيل موقفٍ ضد دونالد ترمب، بل كان أشبه بصرخة أخيرة من ضمير دولة تشارف على نسيان ما قامت عليه: القيم.
إنه ليس سجالًا انتخابيًا، بل لحظة تاريخية نادرة، تُنذر بانكسار الجسر بين السلطة والشعب، بين المؤسسة والضمير، بين التاريخ والمصير.
حين يفقد الجسر توازنه:
قالها أوباما بوضوح: الديمقراطية ليست قدرًا مكتوبًا، بل مسؤولية متجددة. فما نراه اليوم من انسحابٍ من النظام الدولي، وتآكل لحرية التعبير، وتضييق على الجامعات، ليس إلا مؤشرات على تصدع الجسر الذي حمل أميركا منذ الحرب العالمية الثانية إلى ذروة التأثير العالمي.
لكن هذا الجسر لم يكن يومًا من حديد… بل من أفكار.
وحين تنكسر الفكرة، تنهار البُنية
من مورد القوة إلى عبء الصراع
النظام العالمي الذي صنعته واشنطن بعد الحرب لم يكن مجرد منظومة مصالح، بل كان المورد الأهم الذي شرعن هيبتها، وأعطاها الحق الأخلاقي للقيادة. لكن حين تصبح السياسات الاقتصادية أدوات لفرض العزلة، وحين يُدار الحوار بالسيف لا بالدستور، يتحوّل المورد إلى سلاحٍ مرتد، يطعن صاحبه.
هل أدرك أوباما ذلك؟ نعم، وربما أكثر مما أفصح. فقد رأى بأمّ عينيه كيف تُختزل الدولة في شخص، والمؤسسة في نزوة، والديمقراطية في “صفقة”.
الجامعات… قلاع الفكر أم سجون الأسئلة؟
حين يُطلب من الجامعات كشف أسماء الطلبة الذين يعبّرون عن رأيهم، نكون قد دخلنا مرحلة الخوف من الحقيقة.
الجامعة ليست مبنى… إنها ذاكرة وطن. وإذا فقدت استقلالها، ضاع المورد المعرفي الذي يغذي القرار، وانهار الجسر بين الحاكم والمفكر.
وها هنا مكمن الخطر: أن تتحول منارات العلم إلى أبراج مراقبة.
المواطن… الجسر الأخير قبل السقوط:
في عبارةٍ تنبض بالأمل واليأس معًا، قال أوباما: “الأمر متروك لنا جميعًا لإصلاح ذلك.”
بهذا، حمّل المواطن مسؤولية لم يعهدها من قبل: أن يصبح هو الجسر، وهو الحارس، وهو الصانع الجديد للمعايير. فحين تصمت المؤسسات، يتكلم الشعب. وحين يغيب القانون، يعود الضمير.
وفي كل مجتمع، تأتي لحظة يُختبر فيها معدن الأمة… وأميركا الآن تعيش لحظتها.
في مرآة العالم: ماذا نتعلّم؟
ما الذي تعنيه هذه اللحظة لدولنا؟ للسودان؟ للمنطقة التي تحاول أن تنهض وسط الرماد؟
إن خطاب أوباما، وإن بدا محليًا، إلا أنه يحمل رسالة كونية:
أن القيم لا تضمن نفسها، وأن الموارد لا تخلُد، وأن الجسور لا تُبنى بالصمت.
في عالم تعاد صياغته من جديد، ليس الأقوى هو من يملك السلاح، بل من يعرف كيف يبني الجسر، ويصون المورد، ويحرس المعنى.
أصلالقضية: من يكتب السطر القادم؟
ربما لم يكن خطاب أوباما مجرد نقد لسياسات ترمب، بل محاولة أخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه… من فكرة أميركا.
لكن الأهم، أنه دعوة مفتوحة لكل أمة تعاني من اختلال في ميزان السلطة والمعنى، لتعيد قراءة نفسها، وتطرح السؤال الأصعب:
هل نملك الجسر؟ وهل أحسنا استثمار المورد؟
فالذي لا يبني الجسر اليوم… سيعبره غيره غدًا.