
ذرات حالمة تحوم في الأجواء غير عابثة بنهاية رحيلها، أصوات أجنحة البعوض الزنان تسبب الهلع والذي ينذر بقدوم الملاريا وحمى الضنك، شوارع مظلمة مستهزئة بخوفي القديم من الظلمة، تتخللها أضواء مصابيح المارة الثكلى و هم يسيرون مطأطئي الرؤوس، أكتب هذا و لا ضوء لي سوى القمر، و حتى المصباح الضئيل لا قدرة له أن ينير هذا الظلام الداكن المفزع، و هذا حال المدينة منذ انقطاع التيار الكهربائي منذ ثلاثة أيام مرت دون لفحة من نور يغيث ليالينا الطويلة.
أذكر في هذه اللحظة ما حدث في شهر يناير السابق، حيث انقطع التيار الكهربائي بصورة كاملة عن المدينة بكل أحيائها لعشرة أيام متواصلة و بضع من الساعات، بدون آفاق حل يشفي الصدور و يبلغها أن (صبراً على مالم تحط به خُبرا)،
و الآن أيضاً لا حل يلوح في الافق القريب و هذا من أشد ما يغلف القلوب بالحسرة.
الشوارع الآن كأنها أهوال يوم القيامة، حيث يهرع الناس و هم يحملون الدلاء، و يهرعون مزدحمين إلى أقرب مورد للماء، حيث أن الماء مقطوع مع انقطاع الكهرباء في عدد من أحياء المدينة و خاصة مناطق (الثورات).
و أما المناطق التي لا تصلها الماء فقد ظهر فيها نوع آخر من تجار الأزمات الذين يوفرون لك المياه بمقابل ليس بالقليل،
و قد ظهر هذا النوع من الاستغلال بالأخص قبل حركة المحلية لإصلاح خطوط المياه “و الذي لم يأتِ بسهولة إلا بعد استغاثة المواطنين بعد معاناتهم من انقطاع المياه”.
أما المستشفيات فتعمل بقدمين واهيتين على مولدات الكهرباء، و هذا لحسن حظهم، إلا أنه في بعض الأحيان عند توقف المولدات أو حدوث عطل فيها يعمل حينها الجراحين بأضواء هواتفهم لإكمال عملهم الإنساني، و أيضاً توقف عدد من المطاعم و المحلات و المرافق الصحية و الحكومية التي ليس بها مولدات كهرباء.
فهذا ،و ليس للحصر، واحد من أساليب مليشيات الدعم السريع في تعذيب المواطن و افتعال الطرق التي تؤدي لمشقته و كسر شوكته و روحه المعنوية، فبعد الحملات الانتقامية، و الاعتقالات القسرية، و المذابح الجماعية، و الانتهاكات و السرقات، بدأوا يطلقون مسيرات انتحارية تستهدف مناطق و محطات توليد الكهرباء و إلحاق ضرر كبير بالأجهزة يصعب صيانته بين ليلة و ضحاها، فقادهم التجرد من الإنسانية و تفكيرهم لإلحاق المزيد من الأسى للمواطن.
فهناك مناطق في الجزيرة مقطوعه فيها الكهرباء منذ عام كامل، و حتى مدينة ود مدني لم تصلها الكهرباء حتى بعد تحريرها لكثرة الضرر الذي أصاب المحطة المسؤولة عنها، و مدن أخرى على سبيل المثال لا الحصر منها مدينة الأبيض الذي انقطعت منها الكهرباء أيضاً منذ أشهر بفعل حصار الدعم السريع لها، و غيرها من المناطق الذي لا يسع هذا المقال وحده لذكرها.
فنرجو و ندعو الله أن تكون هذه آخر عتبات المشقة، و أن يعود الفرح و الرخاء لهذا الشعب الصابر المكلوم، و ألا يفجعنا الله بمصيبة في أنفسنا و ذوينا و أن يرسل برء الشفاء على أوطاننا الجريحة.