مقالات المواهب
أخر الأخبار

أنين المدن المثقل بأوجاع الحرب .. بقلم/ براءة محمد حسن فضل الله

أنين خافت يجتاح المدى، صراخه لا يُسمع ،لكن أزيزه ينخر طبول الآذان، فزع و حزن قاتم يضمخ الأجواء، يخيم في ملامح المارة، حتى تكاد تقسم أن المآقي الجافة تجهش من الأسى، مشهد لأم تودع فلذات أكبادها تحصنهم بآية الكرسي و هم ذاهبون إلى المدارس، و هي بين مُرين هل تختار الحياة أم تكفنهم بين جنباتها و لكن يا عزيزي هل يمكنك اختيار الحياة؟!
مشهد آخر لشاب يودع أسرته المحبة و يتجه بخطى شجاعة مثقلة، لأن كل خطوة بمثابة انتحار، يسير بعزم و ثبات محارب نحو (سوق صابرين) كي يؤمن قوت يومهم و لا أحد يدري إذا كان سيتم القصف اليوم أم لا!
حفظت هذه المدينة عن ظهر قلبي، مسقط فؤادي و محضني الأول، حفظت مداخلها و ترعرعتُ بين طياتها، في كل حجر صغير منقوش فيها هويتي، و لكن منذ اندلاع هذه الحرب القاسية لم تعد ملامحها كما كانت، بعض الشوارع فارغة، تلك التي كانت تضج بالمارة و الباعة المتجولين، ركام و أنقاض مباني جراء التدوين العشوائي، و مبانٍ أخرى منخورة كالمنخل من الرصاص و شظايا (الدانات) التي تستهدف المواطن المغلوب على أمره، شارع النيل الذي كان مزحوماً في الماضي هو اليوم فارغ، و نصحني الكثيرون ألا أحاول الذهاب إليه، لأن مليشيات الدعم السريع مرتكزة في الضفة الأخرى، و قد يحاولون استهداف من يمر بالضفة المحاذية (و هذا من ما أحزن فؤادي كثيراً فلي ذكريات خاصة مع شارع النيل).

استهداف بشكل شبه يومي على المستشفيات و المرافق الصحية القليلة التي ظلّت صامدة في ظروف الحرب المنهكة، و أيضاً استهداف لمعسكرات الجيش التي هي بالقرب من الأحياء السكنية!!مما يعني إصابات و أضرار للمواطنين و هم في منازلهم، أصوات مدافع تخلف وراءها الذعر و تعيث فساداً داخل النفوس، بيد أن التدوين غالبًا ما يورث وراءه مناظر بشعة و سيئة لأشخاص مصابين و جثث.

أزياء الجيش هي الموضة الرائجة حتى ظاهرت على ملابس المواطنين المغلوبين، حيث أن جنود الجيش أصبحوا ينتشرون بكثرة في بقاع المدينة (لدواعٍ أمنية)، حتى أصبحوا يحتلون بكثرتهم الشوارع و المواصلات العامة، الأمر كان غريب على عيني و لم اعتد عليه إلى هذه اللحظة، حيث أذكر فزعي أول مرة جلس بقربي جندي مرتدياً زيه العسكري (الكاكي) و هو بكامل تسليحه و عتاده.

و رغم تلك المآسي إلا أن شعب مدينة (أمدرمان) الصامد لا زال يحارب تبعات الحرب من فقر و جوع و نقص في الإمدادات الطبية، فتجد تقريباً على رأس كل شارع (تكية) و صفوف تبين حجم المأساة، من مواطنين يصطفون منذ ساعات الصباح الباكر و هم يمسكون أوانيهم الفارغة و قلوبهم المكسورة ليلفحوا بلقمة تسد جوعهم.

فمنذ رجوعي لأمدرمان و أنا أُسائل نفسي، هل هذا ما يسمونه ثقل الفراق، أم أن هذه المدينة صارت مكلومة،
ننظر نحو الأفق كل صباح و نرجو أن ننعم بلفحة أمل من بعض البشارات لانتهاء هذه الحرب لكن بالمقابل تجرفنا فكرة ما للبكاء على ذلك الصبر الدامي الذي يقبع من سنين بداخل الأعماق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى