
أنين خافت يجتاح المدى، صراخه لا يُسمع ،لكن أزيزه ينخر طبول الآذان، فزع و حزن قاتم يضمخ الأجواء، يخيم في ملامح المارة، حتى تكاد تقسم أن المآقي الجافة تجهش من الأسى، مشهد لأم تودع فلذات أكبادها تحصنهم بآية الكرسي و هم ذاهبون إلى المدارس، و هي بين مُرين هل تختار الحياة أم تكفنهم بين جنباتها و لكن يا عزيزي هل يمكنك اختيار الحياة؟!
مشهد آخر لشاب يودع أسرته المحبة و يتجه بخطى شجاعة مثقلة، لأن كل خطوة بمثابة انتحار، يسير بعزم و ثبات محارب نحو (سوق صابرين) كي يؤمن قوت يومهم و لا أحد يدري إذا كان سيتم القصف اليوم أم لا!
حفظت هذه المدينة عن ظهر قلبي، مسقط فؤادي و محضني الأول، حفظت مداخلها و ترعرعتُ بين طياتها، في كل حجر صغير منقوش فيها هويتي، و لكن منذ اندلاع هذه الحرب القاسية لم تعد ملامحها كما كانت، بعض الشوارع فارغة، تلك التي كانت تضج بالمارة و الباعة المتجولين، ركام و أنقاض مباني جراء التدوين العشوائي، و مبانٍ أخرى منخورة كالمنخل من الرصاص و شظايا (الدانات) التي تستهدف المواطن المغلوب على أمره، شارع النيل الذي كان مزحوماً في الماضي هو اليوم فارغ، و نصحني الكثيرون ألا أحاول الذهاب إليه، لأن مليشيات الدعم السريع مرتكزة في الضفة الأخرى، و قد يحاولون استهداف من يمر بالضفة المحاذية (و هذا من ما أحزن فؤادي كثيراً فلي ذكريات خاصة مع شارع النيل).
استهداف بشكل شبه يومي على المستشفيات و المرافق الصحية القليلة التي ظلّت صامدة في ظروف الحرب المنهكة، و أيضاً استهداف لمعسكرات الجيش التي هي بالقرب من الأحياء السكنية!!مما يعني إصابات و أضرار للمواطنين و هم في منازلهم، أصوات مدافع تخلف وراءها الذعر و تعيث فساداً داخل النفوس، بيد أن التدوين غالبًا ما يورث وراءه مناظر بشعة و سيئة لأشخاص مصابين و جثث.
أزياء الجيش هي الموضة الرائجة حتى ظاهرت على ملابس المواطنين المغلوبين، حيث أن جنود الجيش أصبحوا ينتشرون بكثرة في بقاع المدينة (لدواعٍ أمنية)، حتى أصبحوا يحتلون بكثرتهم الشوارع و المواصلات العامة، الأمر كان غريب على عيني و لم اعتد عليه إلى هذه اللحظة، حيث أذكر فزعي أول مرة جلس بقربي جندي مرتدياً زيه العسكري (الكاكي) و هو بكامل تسليحه و عتاده.
و رغم تلك المآسي إلا أن شعب مدينة (أمدرمان) الصامد لا زال يحارب تبعات الحرب من فقر و جوع و نقص في الإمدادات الطبية، فتجد تقريباً على رأس كل شارع (تكية) و صفوف تبين حجم المأساة، من مواطنين يصطفون منذ ساعات الصباح الباكر و هم يمسكون أوانيهم الفارغة و قلوبهم المكسورة ليلفحوا بلقمة تسد جوعهم.
فمنذ رجوعي لأمدرمان و أنا أُسائل نفسي، هل هذا ما يسمونه ثقل الفراق، أم أن هذه المدينة صارت مكلومة،
ننظر نحو الأفق كل صباح و نرجو أن ننعم بلفحة أمل من بعض البشارات لانتهاء هذه الحرب لكن بالمقابل تجرفنا فكرة ما للبكاء على ذلك الصبر الدامي الذي يقبع من سنين بداخل الأعماق.