مقالات الرأي
أخر الأخبار

الحرب في السودان: صراع داخلي أم أداة في لعبة جيوسياسية؟ .. بقلم/ د. غادة الهادي يوسف أحمد … خبير دراسات الكوارث و التنمية المستدامة

■ طبيعة الأزمة و حجمها:
عند متابعة النقاشات الدائرة حول الحرب في السودان، سواء عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو في المجموعات الخاصة و حتى ضمن الأوساط الأسرية يتضح حجم الخلاف العميق و الانقسام بين الناس. و إذا كان هذا التباين واضحًا في الدوائر الصغيرة، فلا شك أن تأثيره سيكون أعمق و أعقد على مستوى الوطن بأكمله. هذا التباين يعكس عمّق الأزمة السودانية و تعقيداتها المتشابكة.

لفهم طبيعة هذه الحرب، يجب النظر إليها من زاوية إدارة الأزمات و الكوارث، حيث تُستخدم هذه الأدوات ليس فقط لمعالجة الأزمات، بل أيضًا كوسيلة للسيطرة على الشعوب. فالحرب في السودان قد لا تكون مجرد نزاع داخلي بحت، بل هي جزء من لعبة جيوسياسية أوسع نطاقًا، تستخدم فيها القوى العظمى إستراتيجيات غير مباشرة لإضعاف الدول دون الحاجة إلى تدخل مباشر. و بهذا تُترك السودان يغرق في مستنقع الحرب مما يفتح الباب أمام التدخلات الخارجية و يُضعف قدرته على الحفاظ على سيادته.

الحل يكمن في الوعي بهذه السياسات الجيوسياسية و العمل على تعزيز التماسك الوطني، و تحقيق الاستقلالية في اتخاذ القرارات و بناء دولة قوية قادرة على مواجهة التحديات بإرادة صلبة و وعي تام.

■ إدارة الأزمات و الكوارث كأداة للسيطرة:
لم تعد القوى الكبرى بحاجة إلى التدخل العسكري المباشر كما كان يحدث في الماضي. بل باتت تعتمد على آليات غير تقليدية لإضعاف الدول و السيطرة عليها، و من بين هذه الآليات:

1. إطالة أمد الصراعات الداخلية:
يتم ذلك من خلال تقديم الدعم غير المباشر لأطراف النزاع، ما يضمن استمرار حالة عدم الاستقرار. وقد تم توثيق تدفق الأسلحة إلى بعض الفصائل السودانية من مصادر خارجية دون إعلان رسمي ما يعزز الشكوك حول وجود جهات خارجية تعمل على إذكاء نيران الحرب.

2. إضعاف مؤسسات الدولة:
تفقد الدولة تدريجيًا قدرتها على السيطرة على مواردها و حدودها، مما يفتح المجال للتدخل الدولي تحت ذرائع إنسانية أو أمنية. و قد شهد السودان ضعفًا في السيطرة على مناطقه الحدودية، مما جعله عرضة لتهريب الأسلحة و تدفق الجماعات المسلحة من دول الجوار.

3. تحويل الدول إلى ساحات نفوذ:
تُبقي هذه القوى الدول في حالة تبعية دائمة عبر الضغوط السياسية و الاقتصادية، ما يسهل استغلال مواردها. السودان مثال حي على ذلك، حيث لم تُستغل موارده الطبيعية الغنية لصالح شعبه بسبب التدخلات الخارجية و الصراعات السياسية الداخلية.

■ الأحزاب السياسية و جذور أزمة الدولة السودانية:
يتمتع السودان بثروات طبيعية هائلة و تنوع ثقافي و قبلي غني، و هو ما يمكن أن يكون مصدر قوة أو عامل انقسام، تبعًا لطريقة إدارة هذا التنوع. قبل الاستقلال، كان السودان يُصنف كإحدى أغنى الدول من حيث الناتج القومي و مستوى المعيشة. و كان الجنيه السوداني بين عامي 1956 و 1978 يعادل ثلاثة دولارات أمريكية تقريبًا، ما جعله من أقوى العملات في المنطقة. هذا الازدهار جعل السودان وجهة للطلاب و المهاجرين من دول عديدة مثل تركيا، اليونان، لبنان، مصر، و الهند، إلى جانب جاليات من شرق و غرب و وسط إفريقيا. و قد حصل العديد منهم على الجنسية السودانية ما يعكس مدى الانفتاح و التنوع في البلاد آنذاك.

بعد أن نال السودان استقلاله في العام 1956 و بالرغم من أن المستعمر البريطاني ترك بنية تحتية إدارية متينة و لكن مع رحيله ظهرت الأطماع السياسية للأحزاب التي تشكلت آنذاك، مثل حزب الأمة، الحزب الوطني الاتحادي، الحزب الشيوعي السوداني، و حزب الإخوان المسلمين و بدلاً عن تطوير النظام الاداري الموروث من الاستعمار تسببت الصراعات السياسية بين الأحزاب في خلق مناخ من التنافس غير الشريف، حيث سعى كل طرف للسيطرة على السلطة بدلاً من تبني نهج تشاركي يعكس تنوع المجتمع السوداني.

أدى هذا التنافس إلى انشغال الحكومات المتعاقبة بإقصاء خصومها السياسيين على حساب إدارة شؤون الدولة بشكل فعال. في المقابل،سعت المعارضة للانظمة المتعاقبة لإفشال جهود الحكومة، مما أدى إلى تفاقم الأزمة و إضعاف الدولة تدريجيًا.

■ انعكاسات الحرب السودانية و جذور المشكلة:
كل هذه العوامل تبلورت في الحرب الحالية، حيث أصبح السودان ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية. وفقًا لتقارير الأمم المتحدة، نزح أكثر من 7.1 مليون شخص داخليًا بسبب النزاع، و يواجه أكثر من 20 مليون سوداني خطر انعدام الأمن الغذائي. هذه الأرقام تعكس حجم الكارثة الإنسانية التي تعيشها البلاد.

للأسف، لعبت بعض القوى السياسية و الناشطين دورًا سلبيًا في تأجيج الصراع، من خلال نشر خطاب الكراهية و تعميق الانقسامات بين أبناء الوطن عبر وسائل الإعلام التقليدية و منصات التواصل الاجتماعي. أدى هذا إلى تصاعد العنف و الفتن، و وصل الأمر إلى التهديد بالتطهير العرقي و هو ما يُعتبر كارثة كبرى تعيق أي جهود للتوصل إلى حلول سلمية.

علاوة على ذلك، فإن الخطاب السياسي القائم على الاستعلاء و الإقصاء، الذي تتبناه العديد من الأحزاب – التي تجاوز عددها 64 حزبًا و كيانًا – ساهم في تعقيد الأزمة على المستويين السياسي و العسكري و جعل من الصعب الخروج من هذه الدوامة.

■ دور الجغرافيا السياسية في الصراع السوداني:
السودان يتمتع بموقع استراتيجي و ثروات طبيعية ضخمة، ما يجعله محورًا لتنافس القوى الإقليمية والدولية. من أبرز العوامل الجيوسياسية التي تؤثر في الصراع:

1. الموقع الجغرافي:
يشكل السودان حلقة وصل بين إفريقيا و العالم العربي ما يجعله مركزًا للتنافس بين القوى الكبرى.
2. الموارد الطبيعية:
يمتلك السودان احتياطيات ضخمة من الذهب (تُقدر بنحو 30% من إجمالي احتياطات إفريقيا)، إلى جانب البترول.
3. مياه النيل:
يعد السودان جزءًا محوريًا في الصراع المائي بين مصر و إثيوبيا، خاصة فيما يتعلق بسد النهضة، حيث تحاول بعض القوى الدولية استغلال هذا النزاع لإعادة تشكيل ميزان القوى في المنطقة.
4. التنوع القبلي و الإثني:
يُستغل هذا التنوع كأداة لإثارة الفتن و تعزيز الانقسامات، خاصة في مناطق مثل دارفور، النيل الأزرق، وجنوب كردفان.
5. الحدود غير المستقرة:
تحيط بالسودان دول تعاني من اضطرابات أمنية، ما يسهل انتشار الجماعات المسلحة وتهريب الأسلحة عبر الحدود.
■ خاتمة:
إن فهم طبيعة الحرب في السودان وعلاقتها بالمخططات الجيوسياسية أمر أساسي لرسم طريق الخروج من الأزمة. لا يمكن تحقيق الاستقرار دون إدراك هذه الحقائق و العمل على تعزيز الوحدة الوطنية، و إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس العدالة و المشاركة الفعالة، بعيدًا عن خطاب الكراهية و الإقصاء.

وحدها هذه الخطوات قادرة على تمكين السودان من استعادة قوته واستقلاله، و المضي قُدمًا نحو مستقبل أكثر استقرارًا و ازدهارًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى